بين "دعاوى" التجديد عند الترابي و"دواعي" التطوير عند محمود! عيسى إبراهيم * في عددها رقم (5307) بتاريخ الثلاثاء 10 نوفمبر 2015 التقت صحيفة"الوطن" بأبي بكر عبد الرازق في مؤانسة (كما تقول) في الدين والسياسة(2)، وجاءت بعنوان من وحي مؤانستها هذه معه يقول: "محمود محمد طهمتخلف بمراحل عن الترابي"..وكانت صحيفة الوطن (ممثلة في مجدي العجبالصحفي الذي آنس أبا بكر) قد قاطعت ارسال أبي بكر في تلك المؤانسةلتسأله: عفواً ولكن هنالك دور للترابي في القانون الذي أعدم محمود لأنهوجد منافساً فكرياً يمكن أن يخطف الأضواء عنه؟ (وجاءت اجابة أبي بكر على النحو الآتي): ليس هذا صحيحاً محمود محمد طه لا يجيئ ولا في اهاب حسنالترابي الفكري ولا يساوي شيئاً منه أنا أقرأ لمحمود وأقرأ للترابيفمحمود متخلف بمراحل كبيرة جداً عن الترابي كمفكر استثنائيفي التريخ الاسلامي ولا توجد علاقة (الترابي يحفظ القرآن بسبعروايات وقرأ كل مجلدات تاريخ الفكر الاسلامي وهو فقيه ومفكرومجتهد ومضيف (يعني: ونضيف) أول الشهادة السودانية فيعهده..ويحفظ ألفية بن مالك منذ الصغر وأستاذ في فقه اللغة وهوالآن يكتب تفسيراً استثنائياً في تاريخ المسلمين لأول مرة بهذاالمنهج بنهج التفسير التوحيدي الاجمالي الذي يصل إلى نظريةقرآنية والآن يكتب في الجزء الأخير منها – يعني: منه -)، ولا توجدمقارنة أخي مجدي بين محمود الذي يمثل تلميذاً متأخراً جداًبالنسبة لحسن الترابي، فهو لا يقارن على أحد لأنه ليس هناك منهو على قامته ليست على التاريخ الاسلامي المعاصر بل علىمستوى التاريخ العالمي المعاصر.. أبوبكر عبدالرازق والتشكيك في الصحيحين في ندوة الخلافات السياسية بين الصحابة (13 يونيو 2015) قالأبوبكر عبدالرازق أمين الدائرة العدلية بالمؤتمر الشعبي: "إن تدوينالسنة وسيرة الصحابة والمروي من الأحاديث في حاجة ملحة فيهذا التوقيت لمراجعة شاملة والتدقيق فيها لأخذ الصحيح منها"ورأى أن المرويات (الأحاديث) تسببت في خلق اشكاليات كبيرة فيتاريخ المسلمين رغم أنه ليس لها أهمية كبيرة – على حد تعبيره – مضيفاً "إن كانت بذات الأهمية التي يتم التعامل بها الآن لاهتمبها الرسول - صلى الله عليه وسلم – كما اهتم بالقرآن وجمعهوترتيبه" وقال أيضاً: "إن المسلمين الآن ليس لهم حاجة لما كتبهالامام البخاري في صحيحه وان كل أحاديث البخاري ومسلم فيحاجة لمراجعة وتدقيق لأخذ الصحيح منها رغم أنها لا تعنيه هوكمسلم – حسبما قال"، (صحيفة أول النهار - الاثنين 15 يونيو - العدد 131) أبوبكر يضع "حركته الاسلاموية" وشخصه فوق مرتبة الصحابة وفي الندوة ذاتها أكد عبدالرازق أن منهجه الشخصي رباني وليسسنياً أو شيعياً، معتبراً قيام طائفتي السنة والشيعة عملية هروبمن مواجهة الواقع...، وأكد أنهم في الحركة الاسلامية السودانية قدنجحوا فيما فشل فيه الصحابة عندما اختلفوا ولم يقتتلوا فيالحركة الاسلامية بسبب قراءتهم للواقع بكل جرأة والتعامل معمعطياته!.(صحيفة أول النهار - الاثنين 15 يونيو - العدد 131) أبوبكر في تشكيكه كان تابعاً لا متبوعاً الحركة الإسلامية في حديثها عن صحيح البخاري تقول: "لكن كلذلك لايستلزم أن يكون البخاري معصوماً وهو ليس بصحابيولاتابعي ولاتابع تابعي ولم يشكك الترابي في السنة ولا اتهمالصحابة بالوضع)...(وليس من مانع مطلقا من النظر في ترتيبالحديث من جديد).. (فيمكن أن يزداد عدد الأحاديث الضعافالتي كانت في موطأ الإمام مالك، أو كما صححت الأحاديث المعلقةفي البخاري، ويمكن أن تضعَّف بعض الأحاديث كما يفعل – بنهجه - الشيخ الألباني) (وقيع الله – التجديد الرأي والرأي الآخر– ص 48 و49). ونتساءل رجل بهذه الجرأة هل هو أهل لمعايرة الأشخاص؟!، وهل يمكن أن يكون حكماً عدلاً؟!. الأستاذ محمود وتطوير التشريع الاسلامي دعا الأستاذ محمود محمد طه منذ وقت مبكر، وبلا مواربة، حين علم يقيناً أن مايدعو إليه هو الحق وغيره الباطل الحنبريت، أن ما يدعو له هو المخرج للأمةالاسلامية من تيهها الذي امتد لقرون بعد الفتنة الكبرى ومقتل الطالبيين،وتعاقب نظم الحكم الذي صار حكماً (ملكاً) عضوضاً بعد انقضاء فترةالراشدين، وجاءت الدنيا منقادة لأهل الدنيا، واختفى الدين في المغاراتوالكهوف والفلوات وقنن الجبال تعبداً وهروباً من القطيع بحثاً عن ذلك الذيمضى "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى"، ولواذاً ب"رب" الذي قالالصحابة فيه: "ما كدنا ننفض أيدينا عن قبر رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا"،ومضت فاطمة تقول دامعة: "هل هان عليكم أن تهيلوا التراب على جسد رسولالله"!، دعا محمود إلى تطوير التشريع الاسلامي (مثاني القرآن الكريم) مننص فرعي خدم غرضه حتى استنفده في القرآن والحديث (الشريعة)، إلى نصأصلي مدخر لحياة الناس اليوم في القرآن والحديث (السنة)، ودعا إلى بعثنصوص الرسالة الثانية من الاسلام، وقال إن محمداً هو رسول الرسالتين؛الرسالة الأولى (تكليف الصحابة ومن تبعهم باحسان وسعهم "نحن معاشرالأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم")، والرسالة الثانية التيعاشها في اللحم والدم (تكليفه هو حسب وسعه وطاقته ومقدرته، ووسعه أكبرمن وسع صحابته – رضي الله عنهم وأرضاه – "لا يكلف الله نفساً إلا وسعهالها ما كسبت وعليها ما اكتسبت")، فما هو تجديد الترابي بإزاء تطويرالتشريع الاسلامي عند الأستاذ محمود؟!. الترابي ودعاوى التجديد * تمثلت تجديدات الترابي في ما عطل من الدين (كما يقول) الذي أكثره تمثلفي القضايا العامة والواجبات الكفائية - قضايا "الحكم" والاقتصاد وقضاياالعلاقات الخارجية - حيث "تواجهنا المشكلات والتحديات والأساليب المحرجة"،وكان اعتمد اهمال "الاحاديث النبوية" المتعلقة بأمور الدنيا، باعتبار "نحن أعلمبشؤون دنيانا"، وباعتبار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – غير معصوم فيما يتعلق بأمور الدنيا (الأمور غير التشريعية حسب رأي الترابي)، إذ – فيرأيه، رأي الترابي – يمكن أن يصحح من تلقاء الناس، أو من تلقاء الترابي،وأمور الدنيا هي المسائل الطبية، والعسكرية، والزراعية، والطبيعية، أو أي شأنيتعلق بالعلم الظاهري المرتبط بالحياة الدنيا!. * يقول أمين حسن عمر: " تفردت الحركة الإسلامية في السودان بنهججرئ، و(الشوري) فيها في الحركة ملزمة، فهي ليست جماعة تابعة لمرشدمتفوق يأتمرون بأمره فتطيع، وينهاها فتزدجر، بل نشأت ثلة من الشبابيأتمرون فيما بينهم بالمعروف ولايرون لأحد منهم سلطة غير سلطة البرهانوالدليل، وكانت فوق ذلك حركة تتميز بجماعية القيادة وذلك أن سلطة المكتبالتنفيذي كانت دائماً فوق سلطة الأمين العام!" (أصول فقه الحركة سلسلةرسائل الحركة الإسلامية الطالبية 3 ابريل 95)!. مخرجات دعاوى التجديد * يقول أمين حسن عمر: "وقد فصل الفقهاء ومنذ عهد بعيد الخطاب السنيوفرقوا بين السنة التشريعية الملزمة وبين السنة التوجيهية والتي يقصد بهاالارشاد والدل على مكارم الأخلاق حيث يكون الأمر في هذا الضرب محمولاًعلى الندب لا على الإلزام مثل أمره بالسواك عند الصلاة"، (لم يأمر النبيصلى الله عليه وسلم بالسواك عند الصلاة وانما قال :"لولا أن أشق على أمتيلامرتهم بالسواك عند كل صلاة - الكاتب"). * كذلك يفعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعلاً انطلاقاً من المعرفة المتاحةللناس في زمانه مثل أمره بتأبير النخل (لم يأمر النبي بالتأبير وانما قال :" لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" - الكاتب) ثم رجوعه عن ذلك، * ومثل اختياره لموقع المعسكر في بدر الكبرى ثم رجوعه إلى رأي بعضالصحابة.. * يعلق أمين حسن عمر قائلاً: "ومثل هذه الشواهد تشير إلى رجوعه صلى اللهعليه وسلم للعمل بعمل أهل الذكر (أهل التخصص) أكان ذلك في مسألةزراعية مثل تأبير النخل، أو مسألة عسكرية مثل اختيار موقع لجيشه، وبسببهذا الفهم فان الدكتور الترابي قد ذاع عنه أنه وفي المسائل المتعلقة بالتخصصفي شؤون الدنيا مثل العلوم الزراعية والطبيعية وغيرها، فانه يقدم رأيالمتخصص على ما بلغه من حديث.. ولذلك فقد صرح بأنه يرى ألا يعمل بحديثالذبابة، وقد أثارت هذه الفتوى زوبعة كبرى وتجرأ بعض ضعاف الأقلام علىتكفير الدكتور الترابي استناداً على هذه المسألة، وانما فعلوا ذلك لسوء فهمهملمعنى عصمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتي حسبوا انها عصمة منمطلق الخطأ سواء كان ذلك في أمر من أمور الدين أو في شأن العلم الظاهريالمرتبط بالحياة الدنيا، ولو راجع هؤلاء القرآن لعلموا كيف أن القرآن قد تنزللتصحيح الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض تقديراته الخاطئة، مثلانشغاله بسادة قريش عن ابن أم كلثوم (الصحيح ابن ام مكتوم - الكاتب) ومثلقبوله الفدية عن أسارى بدر، بل ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه، لميستبعد على نفسه، أن يخطئ في قضائه عندما حذر المتقاضين لديه بأنه إنمايحكم لهم بما استبان له من حجتهم، ولربما كان بعضهم ألحن بحجته منالآخر، فان قضي اليه بشئ ليس له فانما يقضى له بقطعة من جهنَّم.. والحديثمعلوم مشهور" (أمين حسن عمر – أصول فقه الحركة – مرجع سابق – ص 41 – 42.) تصويبات لا بد منها ويمعن أمين حسن عمر في السير نحو الباطل حين يسبغ على عالمالعلوم الزراعية والطبية والهندسية "أهل التخصص" في العلمالمادي التجريبي صفة "أهل الذكر" والبون، جد شاسع بينالمجالين فحين يكون التخصص علماً مادياً تجريبياً ظنياً يحتوشهالشك من جميع أقطاره فان الذكر علم يقيني لا يأتيه الباطل منبين يديه ولا من خلفه!! "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"!!. ولقد خاض أمين حسن عمر في سيرة سيد الخلق حين نسب إليه أنه"لم يستبعد على نفسه أن يخطئ في قضائه" فالنبي صلى اللهعليه وسلم لم يقل ذلك عن نفسه، والحديث ورد في صحيحالبخاري على النحو التالي: "عن ام سلمة رضي الله عنها أنرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنكم تختصمون إلى ولعلبعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاًبقوله، فانما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". والمعلوم أن القضاء انما يقوم على الظاهر وفق قانون الشريعة.. يقومعلى الدلائل والبينات الواضحة، ولا يقوم على الغيب، وهذا هومقتضى العدل.. فمن يحاسب على الضمير المغيَّب انما هو الله،وفق قانون الحقيقة.. فالقضاء لا يقوم إلا على البينات الواضحةوالظاهرة وما عناه النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كقاضٍ يحكموفق أقوال وبينات المتخاصمين.. البينة على من ادعى، واليمين علىمن أنكر.. وقد يأتي احد المتخاصمين بأقوال وبينات وأدلة قضائيةواضحة وقوية لكنه بينه وبين نفسه يعلم أنها غير الحق وأن بهاغشاً.. فالعدالة تقتضي من الرسول أن يحكم وفق البينات والأدلةالتي أمامه، ولكنه كرسول أراد أن يبين القيمة الدينية والقيمةالأخلاقية ليشد الناس إليها.. فليس من العدل أن يبني القاضيعلى شئ خارج حيثيات القضية، مهما كانت صحة هذا الشئ،ومهما كان يقينه شخصياً بصحته.. هذا معنى في العدالة بديهي.. وما رأى امين حسن عمر اذا قلنا له ان هذا المبدأ قد أخذ به قانونالاثبات السوداني لسنة 198 المادة (16) (انظر في كل ذلكالاخوان الجمهوريون – هذا هو الصادق المهدي – مرجع سابق – ص 92 – 93) ونصها: لا يحكم القاضي بعلمه الشخصي. كذلكأخذ بها قانون 1992م المعدَّل.. وانما يحكم القاضي بالعلمالقضائي، والعلم القضائي في أبسط تعريفاته عبارة عن معلوماتعامة متاحة للجميع، في حين أن العلم الشخصي عبارة عن معلومةيعلمها الشخص المعين (حتى ولو كان قاضياً) وليست متاحةللجميع. يقول الدكتور البخاري عبد الله الجعلي تحت عنوان: هل يحكمالقاضي اعتماداً على علمه الشخصي؟!: لقد اختلف الفقهاءالشرعيون في هذا الأمر فقد ذهب فريق منهم إلى القول بالمنعالمطلق في كافة الحقوق، وهو مذهب أبوبكر وعمر وعلي وعبدالرحمن بن عوف ومعاوية ومؤدى مذهبهم هو أن القاضي لا يحكمبعلمه أصلاً في حق من الحقوق، وهو ما أخذ به مالك وأحد قوليالشافعي وظاهر مذهب الحنابلة واختاره ابن القيم.. وذهب فريقآخر بالجواز مطلقاً في سائر الحقوق وهو القول الآخر للشافعيوأحمد بن حنبل، وابن حزم الظاهري، وذهب آخرون إلى القولبالتفصيل في ذلك (البخاري عبد الله الجعلي – دكتور – قانونالاثبات وما عليه العمل في السودان مقارناً بالانجليزي والمصريوالهندي – الطبعة الأولى 1984 – ص 117 – انظر في ذلك ايضاًاحمد عبد المنعم البهي – من طرق الاثبات في الشريعة والقانون – 65 – ص 127، وانظر ايضاً احمد ابراهيم، طرق القضاء فيالشريعة الاسلامية 1928- ص 33). ومن هنا يبدو واضحاً أن المشرِّع قد أخذ في هذه المادة بالمذهبالأول الذي يمنع القاضي من القضاء بموجب علمه الشخصي دونتفصيل. تقابل المادة (16) من قانون الاثبات لسنة 83 ما يسمى في قانونالاثبات الانجليزي وما جرى عليه العمل في السودان بقاعدة وجوباثبات الوقائع بالبينة ومقتضى هذا ان القاعدة العامة هي وجوبتقديم بينة كافية بالنسبة لكل الوقائع التي يعتمد عليها الطرف أوالخصم، أكانت الوقائع محلاً للنزاع أو لها علاقة بمحل النزاع. وعلى هذا الأساس فان القضاة ممنوعون عموماً من القضاء اعتماداًعلى معرفتهم أو علمهم الخاص بوقائع معينة. والمقصود هو أنه إذا لم تظهر بينة تتصل بالواقعة محل النزاع في شكل شهادةشهود، أو بينة نقلية مقبولة، أو مستند أو اشياء أو وقائع ذات علاقة بالوقائعمحل النزاع، يجوز شطب القضية بالرغم من أن البينة الضرورية كان منالممكن تقديمها (انظر النص الانجليزي في البخاري عبد الله الجعلي – دكتور– قانون الاثبات – مرجع سابق – ص 117 – 118). * عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.