إكتمال الترتيبات اللوجستية لتأهيل استاد حلفا الجديدة وسط ترقب كبير من الوسط الرياضي    تواصل دورة شهداء معركة الكرامة بمدينة رفاعة    كساب والنيل حبايب في التأهيلي    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة قطار الشرق .. كتب :ابراهيم على ابراهيم
نشر في سودانيل يوم 26 - 02 - 2016

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

هذى الأرض الممتدة كالتاريخ
حبلى بالشبع وبالخصب المخضل
والناس هنا..
خيرات الأرض تناديهم
لا أذن تصيخ
دعنا منهم
تدارسنا تحديد النسل
وترحلنا عبر الدرجات
عربات شائخة تتأرجح بالركاب
ومقاصير للنوم بها أغراب
الأولى خشخش فيها الصمت
والرابعة العجفاء بها إعياء
ضاعت تذكرة المرأة ذات محطة
ورجال يكتبون
ورجرجة وضجيج
ومآذن فى الأفق المدفون تضيع

محمد المكى اراهيم
من قصيدة قطار الغرب

ذاكرة قطار الشرق

..لم يصل القطار فى موعده ليقل الركاب الذين بدأ عليهم القلق.. والتوجس خيفة أن يطول هذا التأخير، خاصة والزحام شديد..، إمتلأت المحطة عن آخرها.. , دفع الركاب بحقائبهم وزكائبهم وأغطيتهم .. قرب الرصيف مباشرة ، وبذلت الشرطة جهوداً لإبعادهم عن الرصيف دون جدوى...، فجأة تصايح البعض.. القطار قادم .. القطار قادم ..
هاهو يتهادى خارجاً من الورشة بسوادها المعتم ..
بينما كان القطار ببياضه ولونه الكريمى.. بدا كضوء باهر.. إشرأبت الأعناق.. وتزاحمت الأرجل.. يدفع الناس بعضهم البعض كل يسعى للإقتراب من أبواب القطار والذى لم تتوقف عجلاته بعد.
صراخ وصياح.. مشادات.. وبكاء أطفال.. هرج ومرج.. إختنقت الأبواب.. والأقوى هو القادر على النفاذ الى داخل القطار.. بينما قفز خفيفو الوزن عبر الشبابيك ، وصاروا ينادون مرافقيهم أن يرفعوا لهم أمتعتهم.. كل هذا والقطار لم يستقر فى المحطة بعد..

وفى الداخل صراع من نوع آخر.. هاهنا إشتبك أثنان... كل يزعم أنه حجز المقاعد لأسرته..، وهاهنا يصعد البعض لوضع أمتعتهم وحقائبهم فى الأرفف العلوية.. وهنا أسفل القطار حمالون يطالبون بحقهم فى نقل الأمتعة.. حجز المقاعد منهم "خبراء" يسترزقون من هذه الخبرة. وتصرخ إحدى النساء وهى تبحث عن طفلها الذى جرفه الزحام..
فجأة يقطع هذا الضجيج صافرة القطار... بعد صافرة الكمسارى.. ليتهادى بين القضبان.. ويبدأ فى الإنسراب الى داخل المدينة .. , ليغادرها.. ويتنفس الركاب الصعداء وتبدأ النفوس فى الهدوء بعد هذه المعركة الحامية.. ، وبدأوا رويداً رويداً فى الإستقرار..
ومع تحرك القطار تغير الهواء... وجف العرق..، وبدأ الناس يتنازلون عن المقاعد لبعضهم البعض.. تنازل الشباب لكبار السن.. والتأم شمل مجموعة من النسوة.. بعد أن إنسحب الرجال.. وانخرطن فى أحاديث وضحك وتعليقات ساخرة على ما حدث.. وافترشت مجموعة من الشباب أحد الألحفة على الأرض وبدأوا فى لعب الورق " الكوتشينة " .
وحينما إختار رفيقى فى الرحلة مقعده على الشباك.. و وضع يده اليمنى على حافته يستمتع بمزاجٍ عال.. على المناظر.. الخضرة والأشجار وهى تمضى مسرعة.. البيوت المتناثرة حول القرى.. الغابات اللامحدودة.. قطيع الماشية الذى ينتظر عبور القطار.. صبية يلوحون ويتصايحون للركاب ..
أما أنا فقد إخترت تأمل وتخزين كل هذه اللوحات من الدراما.. والقسوة.. والصراع الذى إنتهى الى قدر من التسامح والسلام الإجتماعى... فاطمأن قلبى.. واخترت أن أودع كل هذا، فلى مكان هناك مع أناس يعشقون الحرية.. سبقونى الى سطح القطار.. وما أجملها من متعة لا تضاهيها متعة...
سطح القطار.. أسميه أول أبواب الحرية. الحرية هى أولى أبواب الحب.... سطح القطار يحملك ما بين الأرض والسماء بدون حواجز... ويبعث بالروح فى جنح التحليق.. وتسعد الروح حينما تكون قرب اليمام والقطار والطيور المهاجرة..
سطح القطار، ينعشك هواءه خاصة أوان الليل. ولا يقوى البعض على الصمود فيذهبون فى نوم عميق.. ولكنهم ينسون أنه نوم محفوف بالخطر.. ، أطفال القرى التى تمر بها القطارات يستثيرهم ركاب سطح القطار فيطلقون عليهم (القرع)
. وحينما يعبر القطار قراهم تجدهم يتصايحون: .. قرع..قرع.. قرع. ويتبادل معهم أبناء الحرية المشاغبات والضحك وبهجة السطح والهواء العليل والحرية المطلقة دفعت بأحد الزملاء ليصدح بصوت شجى:
"فى الرصيف مستنى
وللثوانى بهاتى
إمتى يظهر نورو
الليهو ديما بهاتى
ألقى فيهو هناى
يلقى فىّ هناهو
ينسجم بهنانا
الكون يا مريودى"

القطار المر فيهو مر حبيبى
بى العلى ما مرّ .. شلت محبوبى

بدأ الحفل هكذا.. دون مناسبة.. سوى الإحتفال بالحياة.. وبدأ عشاق الغناء من ركاب السطح فى التجمع.. يتقافزون كالغزلان ما بين عربات القطار. لا يأبهون بالخطر المحدق بهم.. كل هذا وعجلات القطار تنسجم مع إيقاع هذا الغناء الشجى: دَا دُم..دَا دُم..دَا دُم..دَا دُم..
توقف بنا القطار كثيراً.. ما بين القرى والنجوع والمدن.. وكانت وقفته الأطول فى محطة تهاميم نزل (القرع) بغنائهم.. وجاء أحدهم بآلة الرق وجاء أهل البلد مع أصوات الغناء والتصفيق. وجئن الصبايا وهن مسرعات يحملن السمن والبيض والجبن والطعمية والخبز ليبعن (زوادة) المسافرين. وأخذت دائرة الحفل تتسع. وظهرت المواهب. وخرجت السيوف والعصى مع أغانى الحماسة.
وأهل الشرق خاصة البجة والبنى عامر شبابها عرفوا بأنهم قوم أشداء فرسان فى القتال ولذا تميزوا بالرشاقة.. وتجد الصبى منهم يرتفع فى رقصة الحرب لمسافة متران أو ثلاث وهو يعرض بسيفه. وزاد من حماس الشباب دخول إمرأة عجوز ترقص.. فالهبت الساحة. وجاءت الأنباء بإن القطار سيتأخر فى إنتظار (مقابلة). أى أن قطاراً قادماً من بورتسودان علينا إنتظاره حتى يصبح الطريق سالكاً لقطارنا..، كم من الوقت سيتأخر؟ هذا لا يهم، فقد أكل الجميع وطربوا واستمتعوا وليس هناك أجمل من حياة الحرية..
ومن على البعد إرتفع الغبار.. جاء القطار يزحف بسرعة.. وبدا فى دخول المحطة بشئ من التوأدة.. أكثر من ثلاثين عربة..
إشرأبت الأعناق.. وتلقى الناس يتصايحون، قال رفيقى فى الرحلة معلقاً: "السودان ضيق الناس يتعارفون".
وجاء نبأ آخر. فهناك من الناس من يلتقطون الأخبار.. قبل الآخرين.. ويملكون المقدرة على نشرها، جاء رجل عجوز من هذا الصنف وقال أن القطار به عطل، وعلينا إنتظار (الترولى) ليحضر لنا مهندس من أقرب محطة كبيرة..
وكان الحفل قد إنتهى واحتاج الناس لقدر من الإستجمام، لكن الشباب توزعوا فى العديد من المناشط منهم من إنصهر مع أهل القرية ورافقوهم حتى منازلهم القريبة من المحطة، ومنهم من ذهبوا الى المقهى يلعبون الطاولة ويشربون الجَبَنة (القهوة). وشكل شباب القطار فريقاً التقى مع فريق تهاميم فى مباراة فى كرة القدم وجمهورها من الطرفين... حيث غلب عليها الحماس أكثر من فنون الكرة..
أما أنا فقد إنضممت الى فريق الصعود الى جبال تهاميم.. وكم كان الصعود مجهداً. وخاصة لأمثالنا ممن لا يعرفون هذا الفن الذى يحتاج الى معرفة الدروب الوعرة وتفاديها. إذ كدت أن أهوى لسوء التقدير فى أحد المواقع. ولكن الله ستر..
جبال غنية بالكوبالت، والمعادن والجير والذهب. ثروات هائلة تنتظر السواعد الشابة والعقول النيرة التى يمكنها تطبيق العلوم والمعارف التى إكتسبوها عوضاً عن تخزينها فى أدراج المكتبات.!!
هكذا دار الحوار بيننا، ونحن على سفح الجبل. من هناك بدا الفضاء قمة فى الصحو، والهواء النقى، وعلى مقربة من السحب، وعلى مدّ البصر جبال لا مُنتهى. ولا حد لها.. فى كل الإتجاهات يالله.. نحن نملك وطن شامخ. غاباته مدّ البصر. قطيع من سفينة الصحراء تعبر فى البعيد.. تحمل الهوادج والمؤن، يبدو ان مجموعة من الناس فى حالة سفر.
...وأنت تنتمى لكل هذه البلاد
...أنت لا تنتمى الى رقعة بسيطة محدودة من الأرض يحكمها الروتين اليومى القاتل.
وصرت أحلم بمسيرات للشباب
تمتد من كل بقاع الوطن. لتعسكر بين هذه الجبال. لتعرفها وليتعرفوا على بعضهم البعض. (الجبال.. أبين أن يحملنها وحملها الإنسان) صدق الله العظيم.. الجبال تعرفنا ونحن لا نعرفها..!!
واحلم بمسيرات أخرى لغابات أنزارا ومريدى وجبل مرة وجبال التاكا والرجاف والجور واسوتربا وشنقلى طوباية وجبل رويان ومروى وسنار وكل المدن التى تحتاج لمن ينبش عن كنوز التاريخ المطمورة فى باطن الأرض وفى عقول الناس وقلوبها..
كل هذه الأحاديث ونحن على سفح تهاميم صاح أحدنا: يا الله أنظروا أسراب الطيور المهاجرة. الطيور منظمة تنظيماً دقيقاً، من أين لها كل هذه الدقة. كيف تم إختيار قادتها.. كيف تم تصميم هذه التشكيلات...، صاح آخر: لماذا حشرنا فى بضعة أشباه مدن تستهلك أعمارنا فيما لا طائل من وراءه..؟ إن بلادنا أغنى وأعظم من أن تهبنا حياة قاسية.. فقيرة بينما نحن أثرياء بكل هذا.. بلادنا أجمل بلاد الله.. ونهر النيل هو أحد أنهر الجنة.. يمكن أن نصنع منه الجنة على الأرض.
ومن بعيد قطع إسترسالنا وإسترخاءنا صوت صافرة القطار وهو يدوى.. فأخذنا على حين غرة. نتعجل الهبوط، إلا أن البعض حذرنا فى أن نهبط بهدوء لأن الأمر جد خطير. والقطار لن يتحرك مالم يصل الجميع.
ورغم هذا هبطنا مسرعين. وأخذنا نعدو.. ونعدو.. وتسلقنا سلالم القطار.. وكان قد بدأ فى التحرك بينما الكثيرين من الناس يطاردونه، ويسحب البعض كبار السن الى داخل القطار، حتى إكتمل ركوب الجميع. بدأت عجلاته فى الإندفاع.
وفى السطح، كان الغناء قد بدأ:
قطار الشوق متين توصل تودينا...
واستيقظ أحدهم من نوم عميق وهو يقول: وصلنا وين؟ قالوا له فى صوت واحد: نحن يادوب إتحركنا من تهاميم..!! كان يوماً رائعاً.
وكان التعب قد أخذ منى، وحشرت ساعدى فى ماسورة المياه التى تغذى العربات ورحت أغط فى ثبات عميق.. عميق.

..لم يصل القطار فى موعده ليقل الركاب الذين بدأ عليهم القلق.. والتوجس خيفة أن يطول هذا التأخير، خاصة والزحام شديد..، إمتلأت المحطة عن آخرها.. , دفع الركاب بحقائبهم وزكائبهم وأغطيتهم .. قرب الرصيف مباشرة ، وبذلت الشرطة جهوداً لإبعادهم عن الرصيف دون جدوى...، فجأة تصايح البعض.. القطار قادم .. القطار قادم ..
هاهو يتهادى خارجاً من الورشة بسوادها المعتم ..
بينما كان القطار ببياضه ولونه الكريمى.. بدا كضوء باهر.. إشرأبت الأعناق.. وتزاحمت الأرجل.. يدفع الناس بعضهم البعض كل يسعى للإقتراب من أبواب القطار والذى لم تتوقف عجلاته بعد.
صراخ وصياح.. مشادات.. وبكاء أطفال.. هرج ومرج.. إختنقت الأبواب.. والأقوى هو القادر على النفاذ الى داخل القطار.. بينما قفز خفيفو الوزن عبر الشبابيك ، وصاروا ينادون مرافقيهم أن يرفعوا لهم أمتعتهم.. كل هذا والقطار لم يستقر فى المحطة بعد..

وفى الداخل صراع من نوع آخر.. هاهنا إشتبك أثنان... كل يزعم أنه حجز المقاعد لأسرته..، وهاهنا يصعد البعض لوضع أمتعتهم وحقائبهم فى الأرفف العلوية.. وهنا أسفل القطار حمالون يطالبون بحقهم فى نقل الأمتعة.. حجز المقاعد منهم "خبراء" يسترزقون من هذه الخبرة. وتصرخ إحدى النساء وهى تبحث عن طفلها الذى جرفه الزحام..
فجأة يقطع هذا الضجيج صافرة القطار... بعد صافرة الكمسارى.. ليتهادى بين القضبان.. ويبدأ فى الإنسراب الى داخل المدينة .. , ليغادرها.. ويتنفس الركاب الصعداء وتبدأ النفوس فى الهدوء بعد هذه المعركة الحامية.. ، وبدأوا رويداً رويداً فى الإستقرار..
ومع تحرك القطار تغير الهواء... وجف العرق..، وبدأ الناس يتنازلون عن المقاعد لبعضهم البعض.. تنازل الشباب لكبار السن.. والتأم شمل مجموعة من النسوة.. بعد أن إنسحب الرجال.. وانخرطن فى أحاديث وضحك وتعليقات ساخرة على ما حدث.. وافترشت مجموعة من الشباب أحد الألحفة على الأرض وبدأوا فى لعب الورق " الكوتشينة " .
وحينما إختار رفيقى فى الرحلة مقعده على الشباك.. و وضع يده اليمنى على حافته يستمتع بمزاجٍ عال.. على المناظر.. الخضرة والأشجار وهى تمضى مسرعة.. البيوت المتناثرة حول القرى.. الغابات اللامحدودة.. قطيع الماشية الذى ينتظر عبور القطار.. صبية يلوحون ويتصايحون للركاب ..
أما أنا فقد إخترت تأمل وتخزين كل هذه اللوحات من الدراما.. والقسوة.. والصراع الذى إنتهى الى قدر من التسامح والسلام الإجتماعى... فاطمأن قلبى.. واخترت أن أودع كل هذا، فلى مكان هناك مع أناس يعشقون الحرية.. سبقونى الى سطح القطار.. وما أجملها من متعة لا تضاهيها متعة...
سطح القطار.. أسميه أول أبواب الحرية. الحرية هى أولى أبواب الحب.... سطح القطار يحملك ما بين الأرض والسماء بدون حواجز... ويبعث بالروح فى جنح التحليق.. وتسعد الروح حينما تكون قرب اليمام والقطار والطيور المهاجرة..
سطح القطار، ينعشك هواءه خاصة أوان الليل. ولا يقوى البعض على الصمود فيذهبون فى نوم عميق.. ولكنهم ينسون أنه نوم محفوف بالخطر.. ، أطفال القرى التى تمر بها القطارات يستثيرهم ركاب سطح القطار فيطلقون عليهم (القرع)
. وحينما يعبر القطار قراهم تجدهم يتصايحون: .. قرع..قرع.. قرع. ويتبادل معهم أبناء الحرية المشاغبات والضحك وبهجة السطح والهواء العليل والحرية المطلقة دفعت بأحد الزملاء ليصدح بصوت شجى:
"فى الرصيف مستنى
وللثوانى بهاتى
إمتى يظهر نورو
الليهو ديما بهاتى
ألقى فيهو هناى
يلقى فىّ هناهو
ينسجم بهنانا
الكون يا مريودى"

القطار المر فيهو مر حبيبى
بى العلى ما مرّ .. شلت محبوبى

بدأ الحفل هكذا.. دون مناسبة.. سوى الإحتفال بالحياة.. وبدأ عشاق الغناء من ركاب السطح فى التجمع.. يتقافزون كالغزلان ما بين عربات القطار. لا يأبهون بالخطر المحدق بهم.. كل هذا وعجلات القطار تنسجم مع إيقاع هذا الغناء الشجى: دَا دُم..دَا دُم..دَا دُم..دَا دُم..
توقف بنا القطار كثيراً.. ما بين القرى والنجوع والمدن.. وكانت وقفته الأطول فى محطة تهاميم نزل (القرع) بغنائهم.. وجاء أحدهم بآلة الرق وجاء أهل البلد مع أصوات الغناء والتصفيق. وجئن الصبايا وهن مسرعات يحملن السمن والبيض والجبن والطعمية والخبز ليبعن (زوادة) المسافرين. وأخذت دائرة الحفل تتسع. وظهرت المواهب. وخرجت السيوف والعصى مع أغانى الحماسة.
وأهل الشرق خاصة البجة والبنى عامر شبابها عرفوا بأنهم قوم أشداء فرسان فى القتال ولذا تميزوا بالرشاقة.. وتجد الصبى منهم يرتفع فى رقصة الحرب لمسافة متران أو ثلاث وهو يعرض بسيفه. وزاد من حماس الشباب دخول إمرأة عجوز ترقص.. فالهبت الساحة. وجاءت الأنباء بإن القطار سيتأخر فى إنتظار (مقابلة). أى أن قطاراً قادماً من بورتسودان علينا إنتظاره حتى يصبح الطريق سالكاً لقطارنا..، كم من الوقت سيتأخر؟ هذا لا يهم، فقد أكل الجميع وطربوا واستمتعوا وليس هناك أجمل من حياة الحرية..
ومن على البعد إرتفع الغبار.. جاء القطار يزحف بسرعة.. وبدا فى دخول المحطة بشئ من التوأدة.. أكثر من ثلاثين عربة..
إشرأبت الأعناق.. وتلقى الناس يتصايحون، قال رفيقى فى الرحلة معلقاً: "السودان ضيق الناس يتعارفون".
وجاء نبأ آخر. فهناك من الناس من يلتقطون الأخبار.. قبل الآخرين.. ويملكون المقدرة على نشرها، جاء رجل عجوز من هذا الصنف وقال أن القطار به عطل، وعلينا إنتظار (الترولى) ليحضر لنا مهندس من أقرب محطة كبيرة..
وكان الحفل قد إنتهى واحتاج الناس لقدر من الإستجمام، لكن الشباب توزعوا فى العديد من المناشط منهم من إنصهر مع أهل القرية ورافقوهم حتى منازلهم القريبة من المحطة، ومنهم من ذهبوا الى المقهى يلعبون الطاولة ويشربون الجَبَنة (القهوة). وشكل شباب القطار فريقاً التقى مع فريق تهاميم فى مباراة فى كرة القدم وجمهورها من الطرفين... حيث غلب عليها الحماس أكثر من فنون الكرة..
أما أنا فقد إنضممت الى فريق الصعود الى جبال تهاميم.. وكم كان الصعود مجهداً. وخاصة لأمثالنا ممن لا يعرفون هذا الفن الذى يحتاج الى معرفة الدروب الوعرة وتفاديها. إذ كدت أن أهوى لسوء التقدير فى أحد المواقع. ولكن الله ستر..
جبال غنية بالكوبالت، والمعادن والجير والذهب. ثروات هائلة تنتظر السواعد الشابة والعقول النيرة التى يمكنها تطبيق العلوم والمعارف التى إكتسبوها عوضاً عن تخزينها فى أدراج المكتبات.!!
هكذا دار الحوار بيننا، ونحن على سفح الجبل. من هناك بدا الفضاء قمة فى الصحو، والهواء النقى، وعلى مقربة من السحب، وعلى مدّ البصر جبال لا مُنتهى. ولا حد لها.. فى كل الإتجاهات يالله.. نحن نملك وطن شامخ. غاباته مدّ البصر. قطيع من سفينة الصحراء تعبر فى البعيد.. تحمل الهوادج والمؤن، يبدو ان مجموعة من الناس فى حالة سفر.
...وأنت تنتمى لكل هذه البلاد
...أنت لا تنتمى الى رقعة بسيطة محدودة من الأرض يحكمها الروتين اليومى القاتل.
وصرت أحلم بمسيرات للشباب
تمتد من كل بقاع الوطن. لتعسكر بين هذه الجبال. لتعرفها وليتعرفوا على بعضهم البعض. (الجبال.. أبين أن يحملنها وحملها الإنسان) صدق الله العظيم.. الجبال تعرفنا ونحن لا نعرفها..!!
واحلم بمسيرات أخرى لغابات أنزارا ومريدى وجبل مرة وجبال التاكا والرجاف والجور واسوتربا وشنقلى طوباية وجبل رويان ومروى وسنار وكل المدن التى تحتاج لمن ينبش عن كنوز التاريخ المطمورة فى باطن الأرض وفى عقول الناس وقلوبها..
كل هذه الأحاديث ونحن على سفح تهاميم صاح أحدنا: يا الله أنظروا أسراب الطيور المهاجرة. الطيور منظمة تنظيماً دقيقاً، من أين لها كل هذه الدقة. كيف تم إختيار قادتها.. كيف تم تصميم هذه التشكيلات...، صاح آخر: لماذا حشرنا فى بضعة أشباه مدن تستهلك أعمارنا فيما لا طائل من وراءه..؟ إن بلادنا أغنى وأعظم من أن تهبنا حياة قاسية.. فقيرة بينما نحن أثرياء بكل هذا.. بلادنا أجمل بلاد الله.. ونهر النيل هو أحد أنهر الجنة.. يمكن أن نصنع منه الجنة على الأرض.
ومن بعيد قطع إسترسالنا وإسترخاءنا صوت صافرة القطار وهو يدوى.. فأخذنا على حين غرة. نتعجل الهبوط، إلا أن البعض حذرنا فى أن نهبط بهدوء لأن الأمر جد خطير. والقطار لن يتحرك مالم يصل الجميع.
ورغم هذا هبطنا مسرعين. وأخذنا نعدو.. ونعدو.. وتسلقنا سلالم القطار.. وكان قد بدأ فى التحرك بينما الكثيرين من الناس يطاردونه، ويسحب البعض كبار السن الى داخل القطار، حتى إكتمل ركوب الجميع. بدأت عجلاته فى الإندفاع.
وفى السطح، كان الغناء قد بدأ:
قطار الشوق متين توصل تودينا...
واستيقظ أحدهم من نوم عميق وهو يقول: وصلنا وين؟ قالوا له فى صوت واحد: نحن يادوب إتحركنا من تهاميم..!! كان يوماً رائعاً.
وكان التعب قد أخذ منى، وحشرت ساعدى فى ماسورة المياه التى تغذى العربات ورحت أغط فى ثبات عميق.. عميق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.