بعد انتهاء فصل "الربيع العربي" في شمال إفريقيا -تونس مصر وليبيا- تلقت هذه البلدان، وبالأخص مصر وتونس وعوداً وردية من المجتمع الدولي، وبالأخص من بلدان الاتحاد الأوروبي بتقديم مئات الملايين من "اليورو" للمساعدة في تغطية التكاليف الباهظة والمساهمة في إنعاش اقتصادات هذه البلدان. ووفق الوعود التي قدمت لمصر وتونس، وذلك قبل إن تنضم إليهما ليبيا، فإن مجموع المبالغ التي تعهدت بها مختلف البلدان والمنظمات الدولية بلغ 40 مليار دولار، منها 20 مليار دولار للسنتين القادمتين لتشجيع البلدين على القيام بإصلاحات اقتصادية لتحفيز النمو فيهما. ومن سوء حظ هذه البلدان أن الوعود قدمت في وقت تعاني فيه البلدان الغربية من أزمات متتالية، إذ إن المبالغ الوحيدة التي وصلت حتى الساعة، هي مساهمة الإمارات وقطر والسعودية وفق تصريحات وزيري المالية المصري والتونسي، حيث يتوقع أن تصل مساهمة دول مجلس التعاون إلى ما يتراوح ما بين 5-7 مليارات دولار، وذلك إضافة إلى تقديم تسهيلات أخرى تتعلق بالتجارة والتعاون الثنائي. لقد أدت الأحداث إلى إلحاق أضرار شديدة بالاقتصادات العربية، فالقطاع السياحي الذي تعتمد عليه مصر وتونس لا زال يعاني، وذلك على رغم هدوء الأوضاع هناك، فخسائر قطاع السياحة العربي بلغت 7 مليارات دولار حتى الآن، في الوقت الذي انخفض فيه النمو في مصر من 5.1 في المئة العام الماضي إلى 1.8 في المئة فقط هذا العام. وفي ليبيا، فإن إنتاج النفط لن يرجع إلى مستوى ما قبل الأحداث قبل عام 2013، أما اليمن، فإنه على شفا مجاعة حقيقية بسبب توقف الأنشطة الاقتصادية. ولذلك، فإن الظروف المعيشية لقطاعات كبيرة من السكان تضررت وفقدت فئات كبيرة من المجتمع وظائفها وأعمالها، وذلك لأسباب عديدة وتضرر البنية التحتية بصورة كبيرة. وعلى رغم أن البطالة كانت أحد أسباب الاحتجاجات، فإن المزيد من الأشخاص فقدوا وظائفهم وانضموا إلى طوابير العاطلين عن العمل، مما يضع المزيد من الأعباء على السلطات الجديدة، وبالأخص في تونس ومصر لتوفير مئات الآلاف من فرص العمل. ومن أجل ذلك، فقد أصبح من الضرورة بمكان العمل على سرعة عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها، وذلك بدلاً من الانغماس في إجراءات الثأر والانتقام، كما أشار إلى ذلك بصورة صريحة وواضحة نيلسون مانديلا في رسالته إلى الشعبين المصري والتونسي، حيث تحمل رسالة مانديلا دلالات خاصة بحكم تجربته وتسامحه وتساميه على روح الانتقام التي لا جدوى منها، حيث لا يمكن الشك في نوايا مانديلا وحبه للحرية، وهو الذي افتقدها 27 عاماً، إلا أنه حوّل بعدها بلده إلى بلد صاعد اقتصاديّاً وعضو في مجموعة العشرين التي تسيّر الاقتصاد العالمي. وتأتي مسألة وقف نزيف تسرب الاستثمارات والعمل على جذب استثمارات جديدة على رأس أولويات الأنظمة الجديدة التي تشكلت في هذه البلدان. وللأسف، فإن الأمور لا تسير وفق هذا المنهج، فالاهتمامات موجهة عكس ذلك، وعلى رغم أهمية المحاسبة وعلى رأسها المحاسبة المالية، إلا أن ذلك يجب ألا يشكل أولوية ويتم تقديمه على الأولويات التنموية. وفي هذا الصدد من المفيد أن نستحضر الظروف المشابهة التي مرت بها أوروبا الشرقية في بداية التسعينيات من القرن الماضي بعد سقوط الأنظمة الشمولية هناك، حيث اتجهت هذه الشعوب مباشرة إلى مواقع الإنتاج لتنمية بلدانها رامية خلفها إرث الماضي بكل تناقضاته، بل إن الحكومة الألمانية الموحدة لم تلاحق رئيس ألمانياالشرقية السابق أريك هونيكر لأسباب إنسانية. ولكن يبدو أن الثأر جزء متأصل من الثقافة الشرقية المرتبطة بتخلف المجتمع وبنيته الاقتصادية، مما يتطلب رفع الوعي الاجتماعي والثقافي والتركيز على التنمية والمستقبل بدلًا من الالتفات للماضي والتمسك به على حساب التنمية. المصدر: الاتحاد 6/10/2011