الأوطان لا تبنى بمجرد الاكتفاء بالحلم الذي لا يتبعه عمل، وانما يرتسم التغيير حين يسعى الناس لامتلاك الارادة الشعبية بالكامل.. الارادة السياسية لبناء الحاضر وبذر بذور المستقبل الأفضل لكل الأجيال. وما أحوج الساحة السودانية - مجددا - مع مطلع عام 2012، الى ما هو أشبه بمحاولة «ترتيب البيت السياسي» . لقد ظل العديد من المراقبين يكررون القول بأن السودان وبما يمتلكه من موارد طبيعية وثروات، وبما يسبق ذلك في المقام الأول، من موارد بشرية ونخب عايشت ارهاصات وتداعيات وتحولات تجارب سياسية عميقة، متأثرة بكل أصداء وأضواء التغييرات السياسية دوليا واقليميا منذ الخمسينات حتى الآن، أن السودان مؤهل للعب ادوار مهمة في محيطه الاقليمي والدولي. وعند التشخيص لأزمات السياسة السودانية فان المتابع للشأن السياسي بالبلاد، يلحظ غياب التوافق الوطني الحقيقي الذي يتوحد فيه الصف الوطني وتجتمع فيه كل مكونات المجتمع العريض على ثوابت بناء الدولة، وووضع الاسس الصحيحة لتداول سلمي للسلطة. ونحن هنا نرى بأن الوفاق هو مفتاح الحل لمختلف أزمات السودان التي باتت بالغة التعقيد ومنذرة بأخطار عديدة لا يمكن اغفال الحديث عنها مطلقا. ان تاريخ الصراعات السياسية في السودان منذ رفع علم استقلاله في الأول من يناير عام 1956، مرورا بكافة تجارب الحكم، المتراوحة بين أنظمة تبنت خط «الليبرالية» ،وأخرى جنحت الى «الشمولية» مكرسة كل السلطات بيد ما يعرف ب«الحزب الحاكم»، او «المجموعة الحاكمة»، والأخيرة نقصد بها تجربة «انقلاب نوفمبر 1958»، الذي لم يكن حاله كحال تجربتين جاءتا بعده في سياق «الغاء دور الأحزاب» وهما تجربتا نظامي «مايو» 1985 و«يونيو 1989»، هذا التاريخ يحفل بنقاط متنوعة، توحي بأفكار عديدة، فيما يتعلق بامكانية استقراء واستخلاص أهم دروس المراحل السياسية المتعددة، التي شهدتها الساحة السودانية. ان الحديث عن تجارب الأمس يفرض نفسه في كل وقت، لأن التوصل الى الصيغ المطلوبة سياسيا، لتفادي واقع الأزمات سياسية كانت أو اقتصادية، هو أمر مطلوب من أجل تجنب خسائر اهدار الزمن والجهد، وما قد تجره تجارب الحاضر من أخطار محتملة على وحدة الصف الوطني وعلى المصالح العليا للبلاد والعباد. ان تجربة الحاضر تحتاج الى قراءات متجددة في كل حين، وفي زمن ترسخ ايقاع الثورات العربية، التي فرضت نفسها على الواقع وعلى مسارات العمل السياسي الراهن بكل الأقطار العربية، تتصدر هذه القراءات مقاربة سياسية محددة، وهي أطروحة «تحقيق الانتقال الديمقراطي». بالطبع، فان تنزيل معطيات ودروس ثورات الربيع العربي على الواقع السياسي يختلف من دولة لأخرى، فهو يرتبط بمدى تجذر العمل الديمقراطي وغنى التجربة السياسية في مجملها، لدى النخب الفاعلة في ميادين الفكر والسياسة والابداع. لقد شهدت الأعوام المنصرمة الكثير من المبادرات وأطروحات الحل السياسي التي اقترحها سياسيون وناشطون سودانيون، في اطار العمل الوطني باختلاف مواقعه. وتترسخ وسط كل هذه الجهود صادقة النية، حقيقة معينة لا مجال لمغالطتها، وهي أن عمق أزمات الحاضر بات يفرض أن تتحلى مختلف اطراف الازمة السياسية في السودان بالمرونة. وعلى ضوء ذلك فلابد أن يكون كل طرف من الطرفين الاساسيين في معادلة العمل الوطني ( الحكومة السودانية والمعارضة )، قادرا على الانصات للآخر وعلى عدم «تخوين الآخر». ان التوصل الى الأهداف المنشودة في استقرار الأوضاع السياسية بالسودان، ومن ثم فتح الطريق الى التنمية المستدامة، يتطلب شجاعة في الاعتراف بالأخطاء من قبل الجميع، فمنذ بدء تجربة «الانقاذ الوطني» الحالية بتعدد مراحلها وما شهدته من جهود سياسية عديدة للتطوير - رغم ان العديد من المعارضين يرى بأن توجه «الانقاذ» صوب ملف «الوفاق» هو «مجرد تكتيك وقتي» لتفادي أزمات اللحظة السياسية الراهنة - نقول انه منذ بدء عهد الانقاذ، فقد مرت مياه كثيرة تحت جسر السياسة السودانية ،وتبدلت مواقع مواقف العديد من القيادات والشخصيات والكوادر، الناشطة في ميدان العمل السياسي في الجانبين، حكومة ومعارضة. لكن المهم في هذا الاطار هو أن يتسارع التوجه من قبل الطرفين، صوب نقطة الوفاق الوطني الحقيقي المنشود، لتجنيب السودان المزيد من العناء والخسائر. ان المعارضة قد ظلت تكرر قولها بأن الاطاحة بحكومة الديمقراطية الثالثة المنتخبة في يوينو 1989 لا يمنح التجربة الانقاذية كلها أي حق في التقرير باسم السودان وشعبه في مختلف قضايا السياسة والاقتصاد والمجتمع.ووجهة النظر هذه تقوم على رفض استخدام القوة العسكرية وسيلة لتغيير نظام سياسي ومن ثم فرض نظام جديد واعتباره هو البديل له. ومن حق الحكومة وحزب المؤتمر الوطني أن يرد على هذا الاتهام السياسي بما يشاء من الحجج. ان ما يشهده الواقع العربي الراهن من توالي انتصارات الثوار في مختلف ساحات الحرية وميادين التغيير، بدءا من تونس مرورا بمصر وليبيا ، يجعلنا نجدد تأكيد القول بأن المطلب الذي يتصدر أولويات العمل السياسي في السودان حاليا هو مطلب تحقيق الوفاق الوطني. والحديث عن الوفاق في ظل التداعيات المعروفة من احتقانات سياسية وأمنية عديدة في الساحة السودانية، ليس ترفا أو توهما لمعطيات غير واقعية. ففي زمن التأزم تزداد الحاجة الى مقاربات واقعية منطقية، تجنح الى السلم لمحاولة ايجاد التسويات المنشودة، التي تتيح المعالجة الأمثل لكل أزمة سياسية مهما كبرت تلك الازمة. ان الساحة السودانية تترقب جهودا جبارة تبذلها القوى السياسية الرئيسية في البلاد، لتوحيد الصف الوطني وتجاوز كل تداعيات أزمنة الصراع السياسي بين الحكومة والمعارضة، بتعدد قواها منذ يونيو 1989 حتى الآن. وايجاد الحلول المنشودة للأزمات الراهنة يتطلب أن تمنح الفرصة الحقيقية لكل القوى السياسية المؤمنة بالحوار والتغيير على اسس سلمية، لتقول كلمتها في كافة قضايا الوضع السياسي الراهن.. لأن لوحة الاستقرار والسلام والتنمية تحتاج لتكاتف جهود الجميع ليتوجوا بجهودهم المشتركة المأمولة مسارات رحلة اهل السودان الطويلة.. تطلعا لآفاق أفضل ولواقع أجمل لكل أجيال الوطن، بكل أقاليمه وبتعدد وثراء فسيفساء واقعه الاجتماعي والثقافي. المصدر: الوطن القطرية 9/1/2012