قد يبدو من الغريب ان ذات الأسباب التى ساقتها قوي المعارضة السودانية فى رفضها المشاركة فى إعداد الدستور السوداني الدائم، هى نفسها الأسباب التى تدعوها للمشاركة. ولكي نفك شفرة هذه المعادلة المعقدة لنمعن النظر فى الأمر من الجانبين؛ فقد قالت قوى المعارضة أنها تحجم عن المشاركة لأنّ الطرف الداعي، وهو المؤتمر الوطني، لن يهتم برؤاها وسيمضي فى النهاية دستوراً خاصاً برؤيته هو، متجاهلاً لرؤيتها! حسناً، لننظر من الناحية الأخري، ولنفترض أن الوطني فعل ذلك، وأخرج فى النهاية دستوراً خاصاً به ولم يعبأ بما تراه المعارضة؛ هل يُعقل ان يحصل الوطني على دستور مخالفاً تماماً - نصاً وروحاً - لرؤي كافة القوى السياسية السودانية؟ ما الذى يمكن أن يحتوي عليه دستور سوداني يتصادم تماماً مع رؤي القوى السياسية؟ اذا كان الأمر يتعلق بالشريعة الاسلامية كمصدر للتشريع مثلاً، فإن هذا النص ظل متواتراً ومتنقلاً فى كافة الدساتير السودانية السابقة بجانب العرف وكريم المعتقدات. هل تتوقع قوى المعارضة السودانية أن ينص الدستور المرتقب على ان السودان دولة ملكية، السلطة فيها وراثية بين الملك والأمراء؟ من المؤكد أن كل نصوص الدستور المنتظر جاهزة ومعدّة فى أذهان الجميع ومتفق حولها سكوتاً. وسيكون الوطني على قدر كبير من الجهل إن لم يكن على علم بأطروحات ورؤي كافة القوى السياسية فى الساحة السودانية يميناً ويساراً سواء من مواقفها أو أدبياتها أو ما تطرحه من برامج فى الاستحقاقات الانتخابية، وأشهرَها استحقاق ابريل 2010م. كما أن القوى المعارضة ستكون هى الأخري فى غاية الجهل إن لم تكن تعرف طبيعة أطروحات الوطني. ولهذا فإن السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: هل الإحجام بسبب التعارض مثلاً فى الرؤي والأطروحات تعارضاً تاماً؟ إن كان الأمر كذلك لما طرح الوطني الأمر على بساط أريحي واسع لنطاق كهذا. كان يكفيه أن يقدم الدعوة بدون إلحاح وبدون حرص على طبيعة الحضور النوعي المطلوب، ويكتفي بالدعوة التى تنتهي بإنعقاد اللقاء (بمن حضر). ولكن كان ملاحظاً ان الرئيس البشير أصرّ على ترك باب الدعوة مفتوحاً للجميع فى أىِّ مرحلة وعاود تجديد الدعوة لمن أبوا. فهل إذن كان الإحجام بسبب المخاوف من ان تطرح قوى المعارضة أطروحات تبدو نشازاً فى أوساط السودانيين؟ إن كان الأمر كذلك فإن دواعي الشجاعة والممارسة الديمقراطي تستلزم ان تقول قوى المعارضة رأيها صراحة، فهي طامحة فى حكم البلاد ومن ثم عليها أن تتصالح مع جموع المواطنين عبر برامجها وأطروحاتها الفكرية. هل إذن الاحجام بسبب رؤي متسقة مع الوطني إجمالاً، مع إفتراق شاسع فى التفاصيل؟ إن كان أيضاً هذه هى القضية فإن هذا ينبغي ان يُحتكَم فيه الى قوة الحجّة والعرض الجيد والطرح الجاد؛ فإلي متي تريد قوى المعارضة ان (يخلو لها الجو) وحدها لتقول ما تريد وتنفذ ما تريد؛ أليس فى إجتيازها لمواقف سياسي استراتيجي كبير كهذا مراناً ديمقراطياً مطلوباً لها حتى إن لم يكن فى مثل هذه المنعطفات؟ وأخيراً، اذا كان كل ما دفع قوى المعارضة للإحجام عن المشاركة هو فقط حتى لا تشارك فى أمر وهي (رديفة) لقوى سياسية حاكمة، هكذا فقط لمجرد كبريائها السياسي، فإن هذه هى الأخري مقدور عليها ؛ فقط عليها أن تنتظر بعد إجازة الدستور الإستحقاق الانتخابي المقبل ليتسنّى لها لاحقاً أن تطرِّز الدستور الذى تريد بخيوط من حرير، ونسيج من ماء الذهب الخالص!