تحدثنا في المقال السابق عن طرح الحزب الشيوعي مع أحزاب أخرى ما يسمى بالبديل الديمقراطي والذي يرجو الحزب أن يعود به عبر ما يسمى بالفترة الإنتقالية إلى وضع حكومة القصر التي فُرضت آنذاك خارج البرلمان (1989م)، أو إلى وضع حكومة جبهة الهيئات بُعيد ثورة أكتوبر حيث سيطر الشيوعي على مفاصل الحكم عبر واجهات متعددة حتى سيطروا على غالب مقاعد مجلس الوزراء باعضائهم وحلفائهم ثم مضوا عبر شعار (التطهير واجب وطني) للاستيلاء على مراكز ومفاصل الخدمة المدنية . وكل ذلك باسم الديمقراطية والتي هى بلاشك ليست الديمقراطية التي يعرفها سائر الناس . الديمقراطية في الرؤية الماركسية: الديمقراطية لدى ماركس ليست إلا طريقاً للاشتراكية . ولذلك فإن الديمقراطية التي يدعو إليها هي (الديمقراطية الجديدة) . وهي ليست الديمقراطية الليبرالية التي يرفع لها الشيوعيون اليوم الأعلام وهم يضمرون غيرها، بل هى نقيضها تماماً حسب الرؤية الماركسية. فالديمقراطية الليبرالية هي الذريعة لديكتاتورية البرجوازية. ولكن ديمقراطية ماركس الجديدة هي ذريعة ديكتاتورية البرولُتاريا . وماركس يقول أن تحقيق سلطة الشعب في إطار الديمقراطية الليبرالية حلم عصىٌّ على التحقيق . ذلك أنه في الدولة الرأسمالية كما يقول فان ما يسمى بوسائط الاعلام والإتصال المستقلة وكذلك الأحزاب تقع تحت سيطرة القوى الرأسمالية. ولا سبيل لحزب من الأحزاب لتحقيق الفوز الإنتخابي إلا بتبني البرجوازية له وتمويل الرأسمالية لمنصرفاته. أما لينين فيقول أنه في النظام الرأسمالى فإن الدولة تُعنى بحل مشكلات الطبقة البرجوازية أما البرولُتاريا فهي منسية ومستغلة تماماً . ولا يُحقق لها أي مكسب إلا بالرضا وحسن النية من الطبقة البرجوازية الحاكمة. فالديمقراطية الليبرالية كما يقول لينين (هي ديمقراطية الأقلية، ديمقراطية الأغنياء وهي ديمقراطية المجتمع الرأسمالي . وأنها مصممة لإبقاء الفقراء خارج دائرة الفاعلين في مؤسساتها . وهو يقول أنه حتى في الحالة الإفتراضية بتكون غلبة برلمانية للفقراء في البرلمان فإنه ليس بامكانهم فعل شيء لتغيير الواقع . ذلك أن الاقتصاد يسيطر عليه القطاع الخاص، ووظائف الدولة محصورة في الحد الأدنى الذي يكرس للسيطرة الرأسمالية على مقدرات البلاد. وربما يقول قائل إن ذلك ما قاله ماركس أو لينين ولربما يؤمن الحزب الشيوعي السوداني بغير ذلك . والإجابة أن الحزب الشيوعي السوداني هو أكثر الأحزاب الشيوعية العربية والأفريقية أرثوذكسية ، وقد عُرف بتطبيقه للماركسية اللينينية وفق النصوص. ودعونا نقرأ شيئاً حول هذه المسألة في وثيقة (الماركسية وقضايا الثورة السودانية) وهي الوثيقة التي أجازها الحزب في مؤتمره الرابع المنعقد في العام 1967م. ففي إجاباته عن مستقبل النظام البرلماني بالسودان يقول التقرير المجاز بواسطة المؤتمر الرابع (فإن الوضع الاجتماعي الراهن يشير بقوة إلى ضعف القواعد الإجتماعية التي يمكن أن يُبنى عليها نظام برلماني برجوازي. وفي نفس الوقت فإن الرأسمالية السودانية نفسها التي يمكن ان تبني هذا النظام السياسي البرجوازي ما زالت من أضعف الطبقات الإجتماعية في بلادنا وهي لا تستطيع التعبير المستقل عن ذاتها إلا في حيز التحالف مع القوى القديمة القبلية وشبه الإقطاعية). ويمضي التقرير للقول (بهذا التحالف فالنظام البرلماني يُعبر في واقع الأمر عن تسلط القوى الممعنة في الرجعية وهي تهدم أساساً هاماً يقوم عليه : الحقوق الديمقراطية البرجوازية أنها تقدم شكلاً للنظام البرلماني مجرداً من كل محتوى وقائماً على قهر الجماهير المتقدمة التي تشكل عصب الحياة الاقتصادية والسياسية الحديثة). ويواصل التقرير (ولأن النظام البرلماني بحكم الأوضاع الإجتماعية والطبقية في بلادنا يصبح أداة لوقف التطور والنمو الإقتصادي والإجتماعي فإن الجماهير النشطة وهي ترفض التدهور في حياتها ويثقل كاهلها التخلف والاستغلال تشق طريقها . وتبحث عن خير الطرق للتقدم والتطور. فالقول بإمكانية إستقرار النظام البرلماني على هذه الصورة لا يعني إلا إمكانية استمرار سلطة الطبقات والفئات الاجتماعية التي ترفض استكمال النهضة الوطنية الديمقراطية. والوثيقة لا تكتفي بطرح المسألة والمشكلة بل تقدم الحل وهو (اقناع الجماهير واستنهاضها في النضال من أجل ديمقراطية جديدة تفتح الطريق للتقدم). والحزب ههنا يستخدم اللغة الماركسية اللينية الصميمة باستخدام مصطلح ديمقراطية جديدة ومصطلح التقدم. ولا يكتفي بذلك بل يمضي إلى شرح مفصل (ديمقراطية جديدة تفتح الطريق للسلطة الوطنية الديمقراطية وترفع إلى أقصى درجة من نشاط الجماهير وأبداعها وترمى بثقلها لتوجيه سياسة بلادنا واعادة بعثها . وهذا المحتوى يعني تمتع الجماهير الشعبية بالحقوق الديمقراطية الاساسية وتقييد نشاط الفئات المعادية للثورة الديمقراطية! وإطلاق طاقات الطبقات والفئات الوطنية والديمقراطية من مزارعين وعمال ومثقفين وطنيين وعناصر رأسمالية وطنية غير مرتبطة بالاستعمار وتقييد ومصادرة نشاط الطبقات ذات الروابط مع الاستعمار والتي ليس لها مصلحة في البعث الوطني ) . وهذا بالضبط ما فعله الشيوعيون إبان الفترات القصيرة التي أمسكوا بمقاليد الأمور في ستة أشهر آبان حكومة جبهة الهيئات وسنة ونيف هي الفترة الأولى من حكم مايو . فهذه الفترة شهدت أشد الحملات شراسة ضد القوى الوطنية الموسومة بالرجعية يصادرون ممتلكات من أسموهم بالرأسمالية المرتبطة بالاستعمار والرأسمالية الطفيلية تلك الممتلكات التى آلت الى بروقراطيين فاسدين من اعضاء الحزب أو محالفيهم.وضربت الجزيرة أبا بالطيران العسكري وكأن جموع الأنصار (الرجعيين) هناك فيلق من فيالق القوى الاستعمارية. وطُرد غالب قيادات الخدمة الوطنية وأمتلأت السجون بالأحرار وعلى رأسهم رموز الاستقلال الوطني توفي منهم من توفي وعلى رأسهم الزعيم الأزهرى، وبقي من بقي تحت نير سلطة الوطنيين الديمقراطيين الجدد من مثقفين وطنيين ومزارعين وعمال ورأسمالية وطنية وعسكريين تقدميين ) وكُممت كل الأفواه وحُظرت كل المنابر . ولما ارتفع صوت من الجامعة أرتفع شعار ( لن تبقى الجامعة جزيرة رجعية وسط محيط ثوري هادر ) وحُظرت كل التنظيمات الطلابية إلا منظمات اليسار وألغي أتحاد الطلاب واُستبدل بتحالف قوى اليسار فيما عُرف ب (سكرتارية الجبهات التقدمية) وما هذا إلا غيض من فيض انتهى بشعور النظام آنذاك بأنه يقدم ثمناً باهظاً لحزب يتسارع في معاداة الجميع . ويتعجل في الجلوس في مقعد القيادة في كل مؤسسة وكل منظمة حتى بات يرمق كرسي الرئيس بذات النظرة . لأن الحزب أصبح يعتبر كل ممانعة ولو على سبيل الرأي المغاير مقاومة من قوى الرجعية المندحرة أو محاولة اختراق من الثورة المضادة. وأثناء ذلك عانى الحزب وهو يحوز على ذلك السلطان الكبير من سلطوية مفرطة وطغيان تجاوز كل الحدود من قبل السكرتير العام الاستاذ عبدالخالق محجوب . مما أدى إلى تجاذبات واختلافات أدت إلى انفجار الحزب من الداخل وانقسامه إلى مجموعتين متساويتين في العدد مع ترجيح الميزان لصالح المجموعة الرافضة لاستبداد وتعجل السكرتير العام . وتفاقم الأمر داخل الحزب وخارجه فكانت القاصمة هي انقسام الحزب إلى ما عُرف آنذاك بالبلشفيك والمنشفيك قياساً على صراع لينين وتروتسكي . فقد كان كل ما يجري في السودان هو استنساخ ومقايسة لما يجرى في روسيا أليست الدجى ترضع من ضوء النجيمات البعيدة في روسيا. نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 30/12/2012م