تطورات جديدة شهدتها ليبيا في الأيام القليلة الماضية تنذر بأن طرابلس الغرب على مشارف مرحلة أمنية مختلفة كثيراً عن الوضع الراهن . فقد دخلت على الواقع الليبي أنماط جديدة من العنف الأمني . كما دخل العامل الخارجي على خط الوضع الأمني . وذلك عبر مسارين متوازيين، أولهما الدور المساعد الذي بدأت تلعبه بعض الدول في اتجاه الخروج من دائرة الفراغ الأمني . وثانيهما وهو الأخطر، مبادرة بعض الدول الخارجية بتنفيذ عمليات نوعية ضد متطرفين مطلوبين للعدالة خارج ليبيا . وقد دشنت الولاياتالمتحدةالأمريكية هذا المسار باعتقال أبي أنس الليبي أحد أبرز القياديين الكلاسيكيين لتنظيم "القاعدة" . في مشهد مثير يحاكي أفلام الإثارة والتشويق، وبينما كان يقوم أبو أنس الليبي بصف سيارته أمام منزله في قلب العاصمة الليبية طرابلس بعد صلاة فجر الأحد الماضي، ظهرت فجأة عناصر وحدة كوماندوز أمريكية ليجد الرجل نفسه مطوقاً وتحت سيطرة كاملة حرمته من أي فرصة للتصرف . ومع ضوء الصباح كان نزيه عبدالحميد نبيه المعروف ب "أبو أنس الليبي" قد أصبح قيد الاعتقال خارج الأراضي الليبية . ولم تتضح بعد جميع تفاصيل وملابسات تلك العملية وكيفية خروج الرجل من طرابلس ثم من ليبيا . إلا أن الدلالات التي تحملها العملية تتجاوز تلك التفاصيل وتتعلق بالخلفية التي دفعت السلطات الأمريكية إلى اتخاذ قرار بتنفيذ هكذا عملية بشكل منفرد داخل أراضي الدولة الليبية . أبرز تلك الدلالات أن الإدارة الأمريكية باتت تعتبر الوضع الأمني في ليبيا قد وصل إلى حال لم يعد ملائماً أو ربما غير مجد التعامل معه بالطرق التقليدية أو من خلال السلطات الليبية التي لم تعد لها سيطرة فعلية على معظم إن لم يكن كل الأراضي الليبية . وهو ما يعكس أيضاً عدم الثقة أمريكياً في الدوائر والأجهزة الليبية المعنية سواء الأمنية أو السياسية . إن لم يكن خشية تسريب معلومات العملية وإجهاضها، فلعدم الثقة في كفاءة وقدرة الليبيين على إتمامها بنجاح . الدلالة الثانية المهمة، تتطابق مع ما ذكره وزير الخارجية جون كيري بقوله إن واشنطن ستظل تلاحق العناصر المطلوبة، وإنهم "يستطيعون الهرب لكن لا يمكنهم الاختباء" . وبالنظر إلى أن "أبو أنس الليبي" ليس متهماً في أي من القضايا أو أعمال العنف منذ أكثر من ربع قرن عندما تم تفجير سفارتي الولاياتالمتحدة في نيروبي ودار السلام، وهي القضية التي صدر بشأنها حكم بحقه من محكمة أمريكية في نيويورك . المعنى أن واشنطن بالفعل لا تتوقف عن ملاحقة المطلوبين لديها، خصوصاً أولئك الذين صدرت بحقهم أحكام أو أدينوا في عمليات استهدفت مصالح أو منشآت أو مواطنين أمريكيين . ثمة دلالة أخرى يفترض أن تثير اهتمام الليبيين كثيراً، تلك أن طرابلس بتلك العملية الأمريكية، قد ضمت ليبيا إلى دول ومناطق أخرى تقوم فيها واشنطن بعمليات استخبارية وأمنية وعسكرية بشكل منفرد . مثل اليمن التي تقوم فيها الطائرات الأمريكية الموجهة عن بعد (دون طيار) بعمليات استطلاع وتتبع وقصف للعناصر الجهادية، وكذلك أيضاً في أفغانستان . ومن اللافت أن ليبيا ليست وحدها التي انضمت مؤخراً إلى تلك القائمة، ففي الوقت الذي كان الكوماندوز الأمريكيون يعتقلون أبا أنس الليبي، كانت وحدة خاصة أخرى تابعة لمشاة البحرية تقوم بعملية موازية في منطقة قريبة من مقديشو بالصومال . وهنا يتجلى المغزى المتعلق بطبيعة الدول والمناطق التي تقوم فيها واشنطن بالتحرك المنفرد، فهي دول إما فاشلة تماماً أو على الأقل هشة ومفككة أمنياً . وهو توصيف أصبح ينطبق بدقة على الوضع الأمني الليبي مؤخراً . وله مؤشرات ودلائل كثيرة بعضها قائم من أكثر من عامين وبعضها الآخر أطل برأسه مؤخراً . شهدت ليبيا في الأسابيع الماضية تجليات جديدة للفراغ الأمني وتطوراً سلبياً لأدوات التعامل السياسي عبر استخدام السلاح والأساليب الأمنية، مثل الاختطاف وفرض الإرادة السياسية بقوة السلاح، وتقويض المؤسسات الأمنية بالاغتيالات، فضلاً عن التصفيات المرتبطة بخلفيات سياسية أو متعلقة بأدوار للمغدورين في محاسبة رموز ومسؤولي نظام القذافي . فقد وصل التردي النوعي في الانفلات الأمني، إلى حد استيلاء مسلحين على أراضي حديقة عامة في مدينة بنغازي وتقسيم مساحتها عليهم، في سابقة لها دلالة خطرة لجهة تفاقم حالة الغياب الرسمي فعلياً ومعنوياً لدى الليبيين . ومما يؤكد تجرؤ الليبيين على الاستهانة بهيبة الدولة، ظهور وانتشار نمطي الاغتيال والاختطاف ضد الساسة والعسكريين . ففي الأسبوعين الماضيين فقط، تمت تصفية جسدية لأكثر من 20 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، فضلاً عن بعض رجال الأمن والقضاء، خصوصاً ممن يتولون ملفات وقضايا رموز نظام القذافي . ومن عمليات الاغتيال البارزة تلك التي راح ضحيتها العقيد يوسف الأصيفر وهو ضابط بالجيش الليبي يشغل منصب المدعي العسكري العام لمناطق شرق ليبيا، ويتولى عدداً من القضايا التي يحاكم فيها مسؤولو نظام القذافي . كما وقعت أكثر من حالة اختطاف كان أبرزها العنود ابنة عبد الله السنوسي مدير استخبارات القذافي، وذلك فور الإفراج عنها بعد عشرة شهور قضتها في السجن بسبب استخدامها جواز سفر مزوراً . ولما كانت تلك العمليات النوعية تستند إلى ضعف الأجهزة الأمنية الرسمية بل أحياناً تأثرها بالخلفيات السياسية والقبلية والفكرية للقائمين عليها أو العاملين بها، فلا جدوى من التساؤل حول مسؤولية تلك الأجهزة عن وقوع تلك العمليات أو على الأقل عن القصور في مواجهتها . ووصل التطور النوعي في الانفلات الأمني بليبيا إلى حد أن السلاح والعسكرة أصبحت أداة سياسية لفرض المواقف أو لخلق أوضاع معينة . والنقلة المهمة في هذا الاتجاه ارتبطت بمبادرة البرقاويين بوقف ضخ النفط عبر المنشآت النفطية التابعة لهم، كنوع من الاستخدام الفعلي لورقة المورد النفطي في الضغط على الحكومة المركزية في ملف الدستور والفيدرالية . ففي الأسابيع الأخيرة تصاعد دور دعاة السلاح واستخدام القوة داخل التيار الداعي للفيدرالية، على حساب الساسة ودعاة الحوار والتفاهم مع طرابلس وبنغازي . ومن شأن هذا التطور أن يشجع على انتشار النزعة الاستقلالية لدى القوى الاجتماعية والسياسية والجهوية الليبية إذا ما توافر لها السلاح أو الموارد، فضلاً عن كليهما معاً كما في حالة برقة . وسيصبح الأمر أكثر تعقيداً إذا ما نجح تيار الفيدرالية في الحصول على مطالبه أو إجبار السلطة المركزية على تقديم تنازلات بقوة السلاح أو باستخدام ورقة النفط . ومما يزيد الأمر خطورة ما تضمنه تقرير دولي حديث صادر عن الأممالمتحدة، حيث كشف أن السلاح المتداول والخارج عن سيطرة السلطات الرسمية في ليبيا، يكفي لتسليح جيوش 5 دول إفريقية . بينما أعلن مسؤول عسكري كبير في حلف الناتو أن عشرة آلاف صاروخ خفيف مجهولة المصير في ليبيا . تضافرت تلك التطورات معاً لتشكل صورة قاتمة للوضع الأمني في ليبيا، على أكثر من مستوى، تبدأ من انتشار وتدفق السلاح داخل وعبر ليبيا، وتنتهي عند تجاوز الولاياتالمتحدة مرحلة الاعتماد على السلطات الليبية في حفظ الأمن واللجوء إلى التحرك المنفرد . ورغم أن ليبيا لم تكن تمانع في الحصول على مساعدات خارجية للخروج من المأزق الأمني، إلا أن التطورات الأخيرة دفعتها إلى طلب العون الأمني الخارجي بأشكال متفاوتة . تشمل عمليات تدريب وإعادة تأهيل للقوات والعناصر الأمنية . بالإضافة إلى التمويل والدعم اللوجستي والعيني . وبالفعل، تتجه طرابلس حالياً إلى التعاقد مع شركات أمنية أجنبية لحماية الحدود الليبية والمساعدة في بناء الجيش الليبي . وفي مسار موازٍ، اتفقت ليبيا مع دول الجوار خصوصاً مصر والسودان وتشاد والنيجر، على تشكيل فرق مشتركة لتأمين وحماية الحدود . لكن تلك الجهود، وعلى أهميتها، تعالج المعضلة الأمنية جزئياً لا كلياً، فضلاً عن أن الحكومات الليبية الانتقالية المتعاقبة منذ عامين أعلنت نيتها اتخاذ إجراءات مشابهة، خصوصاً بالنسبة لجمع الأسلحة ودمج العناصر المسلحة في الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، إلا أن ما بدئ فيه من إجراءات سرعان ما تعرض للانتكاس والتعثر، في حين لا تزال إجراءات وخطوات أخرى تنتظر التنفيذ . ولعل هذا الوضع المتردد بين التحرك والتراجع كان سبباً بذاته في مبادرة بعض الدول مثل الولاياتالمتحدة للتحرك المنفرد داخل الأراضي الليبية بغض النظر عن موقف السلطات الليبية الرسمية . لتكتمل بذلك ملامح مشهد قلق يتقاطع فيه الداخل مع الخارج، ويجسد عمق وتعقد مأزق الأمن في ليبيا . المصدر: الخليج 10/10/2013م