الاشتباكات الدامية الأليمة التي يشهدها جنوب السودان منذ أيام في ضوء الصراع القبلي على السلطة بين قبيلة دنغا التي ينتمي إليها رئيس السلطة سيلفي كير، وقبيلة نوير التي ينتمي إليها نائبه أريك مشار، تأتي لتؤكّد من جديد أن تقسيم السودان لم يكن، ولن يكون حلاًّ، للبلد العربي الإفريقي الشاسع الامتداد، والمتنوع التكوين، والمطلّ على سبع دول في وسط إفريقيا وشرقها، والذي يتلاقى في جغرافيته النيلان الأبيض والأزرق، ويتلاقى مع شقيقته الكبرى مصر مصيراً ومساراً، هوية وانتماء... ورغم إن هذه الاشتباكات لم تكن غير متوقعة على من يعرف حدّة الاستقطاب القبلي في جنوب السودان بين القبائل والزعامات، إلاّ أن ما يجري اليوم في جنوب السودان يؤكّد أن للتقسيم، كما للانفصال، قانون واحد هو "التفتيت المتدحّرج"، فحين يخرج البعض من الهوية الوطنية والقومية، فإنما يخرج إلى تصادم هويات فرعية، أي إلى صراع شرس بين هويات ما قبل الوطنية والقومية. وكلّنا يذكر في لبنان كيف شهدت إمارات الحرب المتنوّعة التي أريد لها أن تكون "كانتونات" طائفية ومذهبية حروباً بين "أبناء اللون الواحد"، وهي حروب تنافس على السلطة وصراع على النفوذ، والأمر نفسه شهده جنوب اليمن حين وصل الصراع بين أجنحة الحزب الحاكم إلى ذروته في أواسط كانون الأول/يناير عام 1985، وذهب ضحيته الآلاف من أبناء اليمن، لاسيّما من خيرة أفراد قواته المسلّحة. وحين خرج المحتل الصهيوني من غزّة عام 2005 ليكرّس انفصالها عن بقية فلسطين، شهد القطاع الصامد الصابر حرباً مؤلمة بين حماس وفتح ما زال القطاع يدفع ثمنها حتى الساعة حصاراً وجوعاً وظلاماً في ظلّ تواطؤ عربي ودولي معيب ومريب. أما في شمال العراق، فرغم كل الاحتضان الدولي والإقليمي لقيام كيان منفصل في شمال العراق، فإن من يستعرض تاريخ العلاقات بين مكونات هذا الكيان ذاته، قديماً وحتى مؤخراً، يعرف كم سالت من دماء بين الفصائل المتنازعة، حتى تمّ الاتفاق على "تقسيمه" إلى ولايتين داخل الكيان الكردي نفسه، ولاية أربيل، وولاية السليمانية. في سوريا اليوم، بات واضحاً أن الصراع الدموي بين قوى المعارضة المسلّحة وصل إلى توتر غير مسبوق حينما خرجت بعض المناطق السورية عن سيطرة الدولة، فحوّلها البعض، في الداخل والخارج، إماراتٍ متحاربة تتهم بعضها البعض بأشدّ الاتهامات، وتفتك ببعضها بأشدّ أشكال الفتك. فالتقسيم إذن لم يكن يوماً حلاًّ لأزمة الهويات الفرعية أو الجزئية في الكيانات الوطنية، ولم تقدّم التجزئة والانفصال حلولاً للعلاقة بين مكونات الكيان الوحدوي العربي الأكبر، بل اتضح أكثر فأكثر أن التكامل القومي بين الأقطار، والوحدة الوطنية داخل القطر، هما اللذان يشكلان حلاًّ بالتنمية لواقع التخلف، وبالأمن القومي لحال استباحة السيادة والاستقلال، وبالوحدة الوطنية لعلاقات الصراع بين الهويات الفرعية وبالديمقراطية كإطار لاحترام حقوق الأفراد والجماعات، بل أن التكامل والوحدة باتا سمة العصر. ولقد فرح الكثير من منظري "التجّزئة" و "التقسيم"، والعاملون علناً أو سراً من أجلهما، يوم الاستفتاء على تقسيم واحد من أهم البلدان العربية والإفريقية والإسلامية وأكبرها، واعتبروا هذا "التقسيم" (الذي رسم خطوطه الأولى الاستعمار البريطاني، وحرسته أنظمة الاستبداد والتخلّف التي تعاقبت على حكم السودان، ووفّرت البيئة المناسبة له العديد من الحكومات العربية الغنية، والمتواطئة على وحّدة السودان، كما على وحّدة العديد من أقطار الأمّة، بتقصيرها عن تحمّل مسؤولياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجاه هذا الجزء المحروم والمظلوم من السودان)، تأكيداً على سلامة "أفكارهم" التي تغلّب الهويات الفرعية على الهويات الوطنية والقومية لأغراض لم تعد خافية على أحد. أما الأممالمتحدة، كواجهة للسياسات الأمريكية والغربية في المسألة السودانية، فقد دفعت هي الأخرى ثمن خيارها ورهانها وتآمرها على وحدة السودان، حين تعرّضت قواتها إلى نيران الاشتباكات "الصديقة"، وانقطع اتصالها ببعثتها في "الدولة" الحديثة العمر، فيما لم يجد "نائب الرئيس′′ مشار، قائد الانقلاب الفاشل، مكاناً يلجأ إليه أفضل من السفارة الأمريكية في جوبا التي شجّعت بالأمس "تقسيماً" داخل دولة السودان الكبير، وتشجّع اليوم "انفصالاً" داخل "السودان الجديد" الذي لا جديد فيه سوى انهمار الدماء على حدوده وفي الداخل، سوى صراع المصالح وثروات مكبوتة في داخله. فهل يأخذ المعنيون العبّرة مما يجري في السودان، ويدركون أن مشاريع الانفصال والتجّزئة لا تحمل للشعوب إلاّ المزيد من الحروب والعنف والدماء، وأن لا حلول إلاّ بالوحدة ذات المضمون الديمقراطي التقدمي التنموي الإيماني والحضاري، وحدة تتدرج من التضامن إلى التكامل إلى الكونفدرالية، إلى الفدرالية، وحدة تقوم على تكامل المشاعر والمصالح، تكامل التاريخ والجغرافيا، تكامل الثقافة والاقتصاد. المصدر: رأي اليوم الالكترونية 21/12/2013م