ينظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها إحدى آخر التجارب الإسلامية ما قبل الحربين العالميتين والتي كانت من نتائجهما سيادة الفكر الغربي القائم على العلمانية وامتداد تأثيره إلى العالم الإسلامي وقد ظهر ذلك بشكل صارخ في تركيا وكان كمال أتاتورك رأس الرمح في ترسيخ بديل علماني صارم مدفوع ومدعوم من قبل المنظومة الغربية التي شكلتها الحرب العالمية الثانية بشكل خاص. بيد أن تلك التجربة لم تكن لتوصف بالإسلام السياسي، إذ إنه مصطلح حديث نسبياً. كانت الدولة العثمانية هي النقطة التي انتهى عندها صعود الإسلام وتفوقه في كافة المجالات بعد أن سادت تلك الدولة لأكثر من ستة قرون (1299م – 1924م).. لقد جاء الانهيار لأسباب داخلية وخارجية؛ وإذا تجاوزنا الأسباب الداخلية، نجد أن دعوات العلمانية والقومية القادمة من الغرب قد أكلت في الأساس الفكري للدولة العثمانية. أما الإسلام السياسي، فهو مصطلح سياسي وإعلامي أطلقه الآخر (الغرب) واستخدمه لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره "نظاما سياسيا للحكم"، فالإسلام عندها ليس ديانة فقط وإنما هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات الدولة، وقد لا يجد المؤمنون بمفاهيم الإسلام السياسي حرجاً في هذا المصطلح – يفضلون مصطلح الحاكمية لله - إن كان يتضمن تلك المفاهيم، بيد أن الآخر يطلق المصطلح مصحوباً بوصفهم بمجموعة "المسلمين الأصوليين" ولاحقاً بالإرهابيين خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.. الغرب في الوقت نفسه لا يضع الإسلام في ضفة واحدة، فهو غير راغب في مواجهة شاملة، فضلا عن أن أسلوب (فرق تسد) لابد أن يكون حاضراً.. فالإسلام السياسي عنده يتضمن تصنيفات؛ فدول مثل إيران والسودان ونظام طالبان السابق في أفغانستان وحركة حماس في قطاع غزة لا تمكن مقارنتها بالمملكة العربية السعودية وباكستان اللتين ترفعان شعار الإسلام وهما في الوقت نفسه حليفتان للولايات المتحدةالأمريكية والغرب عموماً.. الغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظام حياة شامل يريد نظماً سياسية في الدول الإسلامية تتماهى مع ما يؤمن، وهذا ما يصطدم تماماً مع رؤية الإسلام السياسي ولذا يشيع عبر آلته الإعلامية الضخمة أن حركات الإسلام السياسي تسعى إلى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا تصلح في رأيه للعصر الحالي.. ويجد الغرب في التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية ضالته، حيث تلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة عدم قبول لديها، فهي تؤمن بالرؤية الغربية وتريد بناء دول علمانية، وأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية شأن خاص بالفرد المواطن ولا شأن للدولة فيه.. لكن المتابع لمسار الإسلام السياسي بالمفهوم المتطرف لدى الغرب، يلحظ أنه تحول إلى قوة سياسية معارضة في بعض بلدان غرب آسيا وبعض دول شمال إفريقيا، بل نجح في الوصول للحكم في بعض الدول مؤخراً مثل مصر (قبل التغيير الأخير) وتونس والمغرب وحركة حماس في فلسطين، وقبل ذلك في الجزائر والسودان. في السودان كان الإسلام السياسي الأطول بقاءً في الحكم ولا يزال؛ وفكر الإسلام السياسي في السودان تطور عبر ثلاث مراحل: مرحلة التكوين الأول من أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي. مرحلة التفاعل السياسي والاجتماعي النشط في فترة سبعينيات القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينيات منه، حيث قامت ما عرف بثورة الإنقاذ الوطني بقيادة الرئيس عمر البشير. مرحلة الهيمنة على الدولة وقد بدأت باستيلاء الرئيس عمر البشير على الحكم في 1989م. وقد اهتمت الحركة الإسلامية في هذه المرحلة بمزج خطابها الفكري والسياسي بالخطاب الموجه من قبل الدولة التي استمرت قومية الطابع أكثر من كونها دولة عقائدية.. وكان نهج الحركة دائما البحث عن أرضية مشتركة مع كل السودانيين على اختلافهم ومحاولة المواءمة بين ذلك وبين مبادئها الإسلامية. ونشير هنا إلى أن عهد الحركة الإسلامية في السودان بالسلطة لم يبدأ بانقلاب الرئيس البشير؛ فعندما تبنى الرئيس الأسبق جعفر النميري برنامجاً للإصلاح أسماه (النهج الإسلامي) صالحته أحزاب الجبهة الوطنية المعارضة، ومن بينها الحركة الإسلامية وذلك في العام 1976م وكان الإسلاميون الأكثر تنظيما وتخطيطا من بين الأحزاب الأخرى لاستثمار المصالحة في التمكين لنفسها في أجهزة الحكم ومفاصل الاقتصاد.. التمكين الجزئي في عهد النميري مهد لاستيلاء الحركة على السلطة قبل (25) عاماً، لكنها لا يبدو أنها استطاعت خلال هذه الفترة من (تمكين المجتمع). أي أن يمتلك المجتمع المشروع الإسلامي فهماً وتأصيلاً. اليوم يواجه الإسلام السياسي في السودان تحدياً كبيراً في ظل ظروف داخلية وإقليمية ودولية ضاغطة.. ولعل ما طرحه الرئيس البشير في يناير الماضي والذي أسماه بالوثبة يدخل في إطار البحث عن مخارج للخروج من الأزمة السياسية.. البشير طرح رؤية جديدة تجاه التحول الديمقراطي عنوانها إطلاق الحريات السياسية والصحفية، بيد أن إجراءات أخيرة اتخذت ضد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي المعارض، أدت به إلى الاعتقال، فضلا عن إغلاق إحدى الصحف المستقلة، مثلت صدمة وردة لما طرحه الرئيس البشير، الأمر الذي يضع استفهامات جدية تجاه مستقبل أطول نظم الإسلام السياسي بقاءً في الحكم. المصدر: الشرق القطرية 1/6/2014م