قدر لي الأسبوع الماضي أن أزور السودان لأول مرة في حياتي.. بعيدا عن الطقس الحار الذي لم يعتد عليه لبناني مثلي حيث تبلغ الحرارة أربعين درجة مئوية ليلاً، يمكن القول إن زيارة السودان تجربة مثيرة لأي عربي يؤمن بوحدة التراب العربي وأهله.. جئت السودان وما أعرفه عنه كان أقل بكثير مما يستحق أن يعرف عنه، فمن الجيد أن تتعرف على الناس في بلدانهم.. لم تكن المرة الأولى التي ألتقي بها بشخصية سودانية لكن أن تلتقيها داخل بلدها فهذا أمر مختلف.. السودان بلد كبير وواعد وكل ما فيه لا يزال بكراً، من تربته الخصبة والغنية بالموارد الطبيعة إلى ناسه المأسورين بالفطرة الطيبة.. ترى ذلك في لطف معشرهم وكرم ضيافتهم ونبل نجدتهم.. قدر لي خلال زيارتي التي دامت أسبوعا لقاء كل من المفكر السلامي المعروف الدكتور حسن الترابي والدكتور غازي صلاح الدين الأمين العام السابق للمؤتمر الوطني الحاكم قبل أن يستقل بنفسه ويؤسس حزبه الإصلاح الآن وكذلك الدكتور عبدالرحيم علي الأمين العام السابق للحركة الإسلامية. كما حظيت بلقاء عدد من الإعلاميين السودانيين من مختلف المشارب الفكرية والسياسية. أجزم بأن القاسم المشترك بين كل من التقيته في هذه الرحلة هو كرم المعشر وحسن الضيافة ولطفهم الأقرب إلى طيب معشر أهل القرى عندنا في لبنان الذين لم يتلوثوا بلوثة المادية وضغط مشاكلها. ورغم أنك في بلد إفريقي حيث تكثر المشاكل الاقتصادية والسياسية وتزيد نسب المجاعة والبطالة، فإن ما يلفت انتباهك المرأة السودانية، فهي توشك أن تكون أكثر كفاحاً من الرجل أو صنوا له في السعي على لقمة العيش، والسودان دولة رائدة إلى جانب تونس في إشراك المرأة في الحياة السياسية باكراً. كما أن الحركة الإسلامية بشكل عام كان تهتم بالمرأة وتدفع بها إلى المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل أكثر تقدماً مما كانت عليه الحركات الإسلامية في بلدان أخرى التي غلّب فيها الإسلاميون نزعة التشدد والمحافظة تجاه قضايا المرأة. ولا تستغرب أن تجد نفسك في منزل يقوم على ضيافتك فيه ربة المنزل نفسها، وقد تكون وزيرة سابقة أو نائب حالي في البرلمان، وقد صادفت هذه الحالة خلال زيارتي لمنزل أحد السياسيين، وهناك ما يعرف ب "ستات الشاي" يجلسن في الأماكن العامة وداخل المنتزهات لساعات طويلة، يقدمن المشروبات الساخنة من شاي وقهوة وغيرها للزبائن حتى في حرّ الشمس دون كلل أو ملل، وهن يحظين باحترام واسع من قبل المجتمع.. يأسرك هذا الشعب بصبره على شظف العيش وتمكن القناعة منه وتحويل أشد وأحلك ظروف الحياة صعوبة ومشقة إلى لحظات مسلية يصرفها في نكات تخفف من وطأة السعي على لقمة العيش. في السودان حزن شديد على انفصال الجنوب وأمل كبير بعودته إلى حضن الوطن فأهل الشمال يرون أن انفصال الجنوب أضر بالبلدين وأبعد طفلا عن أمه فصار تائها يبحث عن هوية ومستقبل.. والانفصال أمر مؤلم وأنا شخصيا تألمت حين وقعت الحكومة السودانية اتفاقية نيفاشا عام 2005 التي سمحت للجنوب بالانفصال.. وهاهو سيناريو الانفصال يهدد جميع الدول العربية اليوم. في اليوم الثالث لوصولنا الخرطوم كانت المقاتلات الحربية الغربية والعربية تغير على مراكز تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وتنظيمات سلفية وجهادية أخرى في سوريا تحت ستار مكافحة الإرهاب.. الإعلام العربي والغربي إلا ما ندر كان يهلل لهذه الغارات ويمتدح المشاركين فيها إلا في السودان.الأمر كان مختلفاً أو بدا لي كذلك.. حاولت أن استفهم عن سر ذلك فوجدت أن اغلب الإسلاميين في السودان يرون أن تنظيم داعش تقف خلفه جهات استخبارية إقليمية ودولية لتشويه الإسلام وأن الهدف الأساس منه هو القضاء على الإسلام السياسي والنيل من أي مشروع نهضوي تريده الأمة بعد أن أوشكت الثورات العربية أن تدمر كل ما بناه المستعمر منذ تقسيم البلاد العربية مطلع القرن العشرين. قد يكون تقدير إسلاميي السودان على اختلاف أحزابهم لمجريات الأحداث في العراقوسوريا والموقف من التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب خاطئا لكن يكفيهم كما يكفي أهل السودان جميعا أنهم يشعرون بألم وأوجاع هذه الأمة الذي يمزق بعضها بعضا في العراقوسوريا، وهم أدوا قسطاً من واجب نصرة القضية الفلسطينية وما زالوا! المصدر: الشرق القطرية 28/9/2014م