إن استضافة الصين في وقت سابق من الشهر الماضي، لمنتدى الصين- ودول أمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي (سيلاك)، الذي عُقد مؤخراً، لا تشير فقط إلى تصميم الصين على الحفاظ على انتشارها الاقتصادي وتوسيعه، بل كان مقصوداً منها بوضوح أيضاً، أن تُرى في سياق سياسات الولاياتالمتحدة الأخيرة، ولا سيَّما سياسة "التحول نحو آسيا" التي أطلقتها إدارة أوباما العام الماضي . فإذا كان الأمريكيون يريدون تعزيز موقفهم في "باحة الصين الخلفية"، وَفق هذا التفكير، فإن الصين ترغب في أن توضح أن لديها موقفاً صلباً في القارة الأمريكية . ولكن وجهة النظر هذه ساذجة إلى حدٍّ ما: فما هي خلفيات الخطوة الصينية؟ كانت أقوى الأوراق في يد الصين، بطبيعة الحال، الموارد المالية، المتاحة لها لتستخدمها في التجارة والاستثمار المباشر: وقد وعد الرئيس "شي" في كلمته الافتتاحية، بمضاعفة أحجام التجارة مع المنطقة إلى 500 مليار دولار، وزيادة الاستثمار المباشر فيها إلى 250 ملياراً . وبناءً على ذلك، أصبحت الصين، بعد الولاياتالمتحدة، ثاني أكبر شريك تجاري لأمريكا اللاتينية ودول الكاريبي، وثالث أكبر مصْدر للاستثمار الأجنبي فيها . وهذه حزمة جذابة للغاية . ولكن الصين لا تجهل أن العلاقة التجارية تنطوي على تعقيدات كثيرة، فعلى الرغم من أن الجانب الصيني أشار إلى كون الصين دولة نامية مثل أعضاء مجموعة (سيلاك)، فإن الأمر ينطوي على مراحل من التنمية مختلفة جدّاً . والصين تستورد المواد الخام بكميات كبيرة من دول هذه المنطقة، وتصدّر إليها منتجات صناعية جاهزة، ضمن نموذج يقارب النموذج التجاري التقليدي، القائم بين الدول المتقدمة والدول النامية . ومن هنا، فإن الأمريكيين اللاتينيين، يظلون قلقين من أن يؤدي الاعتماد على الواردات الصينية، إلى إضعاف صناعتهم التحويلية (على الرغم من أن الاستثمار الصيني، سوف يعوّض ذلك إلى حدٍّ ما) . كما أن أمريكا اللاتينية تشتمل على دول منتجة للنفط، مثل فنزويلا والأرجنتين والإكوادور، تضررت بشدة من الانخفاض العالمي في أسعار النفط، الذي لا بُدّ للصين من أن تكون منتفعة به . وسيكون العرض الصيني لتقديم الدّعم محلّ ترحيب، ولكن ستكون ثمة خيبة أمل في الوقت ذاته، إذا اعتُبرت الصفقة أحادية الجانب في الممارسة العملية . كما توجد دلائل على أن الصين أقلُّ ميلاً من قبل، إلى إنقاذ الدول التي كانت أقل تعقلاً في إدارة مواردها المالية . فقد كان الرئيس الفنزويلي مادورو، يمنّي النفس بالحصول على قرض طوارئ نقدي لمساعدة بلاده في أزمة الديون التي تمرُّ بها بسبب انخفاض أسعار النفط . ولكن الصين لم تكن مستعدة لتقديم أي أموال إضافية، إلى جانب إعادة عرض قرض بقيمة 20 مليار دولار، كانت قد وعدت بتقديمه من قبل . والصين قلقة بصورة واضحة، مثلما العديد من الدول غيرها، من احتمال فشل فنزويلا في سداد ديونها، بعد أن أنفقت جميع عائدات النفط الضخمة التي جنتها خلال سنوات الازدهار . ومن المحتمل أن يكون هذا التطور ذا مغزى . فقد دأبت فنزويلا على التطلع إلى دعم الصين المبني على أسس سياسية، ضمن مساعي هذا البلد إلى إقامة تحالف مناوئ للولايات المتحدة في المنطقة، كما كانت تأمل في الحصول على دعم غير مشروط في هذه المسألة . ولكن قرار الصين إرساء العون المالي على معايير اقتصادية بحتة، يشير إلى أن الصين لا ترغب في أن تُرى مموِّلاً سخياً للتواطؤ السياسي المناوئ لأمريكا، بل مجردَ شريك اقتصادي متين يسعى الى النفع المتبادل . ولا تبدو الصين متحمسة لأن تواجِه سياسياً، جهودَ إدارة أوباما الأخيرة، الرامية إلى التقارب مع الدول جنوباً، والتي تكللت بقرار تطبيع العلاقات مع كوبا، الذي طال انتظاره، بعد أكثر من خمسين عاماً . والمعنى الذي ينطوي عليه ذلك، هو أن الصين مستعدة لترك النصف الجنوبي من القارة ضمن مجال النفوذ الأمريكي، والاعتماد على الروابط الاقتصادية في الحفاظ على مصالحها الخاصة هناك . والإيماءة التي تتوخاها الصين من وراء ذلك، هي أنه يجدر بالولاياتالمتحدة أن تحذو حذو الصين، وتكفّ عن أي تدخل سياسي في شرق آسيا . وسيكون مهمّاً في هذا السياق، مراقبة التقدم في اقتراح بناء قناة في نيكاراغوا بقيادة الصين، وهو الذي اعتُبر تهديداً محتملاً للمصالح الأمريكية في قناة بنما جنوباً . ومن المصادفات، أن مؤتمر الأمريكيتين القادم، الذي سيحضره الرئيس الكوبي راؤول كاسترو للمرة الأولى، سوف يُعقد في بنما . وهناك سوف نعرف ما ستقدمه الولاياتالمتحدةلأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، في مجالي الشراكة الاقتصادية والتعاون الأمني . وقد يكون ذلك فاتحة عهد جديد في العلاقات بين الشمال والجنوب، شريطة أن يتمكن الرئيس أوباما من الحصول على موافقة على خططه من قبل الكونغرس العدائي بصورة أساسية . والنتيجة التي يمكن التوصل إليها، أن الصين لا ترغب في توريط نفسها في المكائد في أمريكا اللاتينية، إنّ لها مصالح اقتصادية هناك، مرتبطة بالمواد الخام بدرجة كبيرة، ويمكن أن تشكل الصين شريكاً تجارياً بديلاً مع هذه الدول، جديراً بالاعتبار، إذا شرعت الولاياتالمتحدة في فرض شروط تجارية على المنطقة لا تُحتَمل . ولكن مخاوف الصين الأمنية تظل مركزة على آسيا ولا تتحوّل عنها، وإذا أوحى مظهر تحدٍّ صيني في أمريكا الجنوبية، للإدارات الأمريكية الحالية أو المستقبلية، بزيادة التركيز على قارتها، فلن تمانع الصين في ذلك . * دبلوماسي بريطاني متقاعد (شبكة الصين) المصدر: الخليج 5/2/2015م