كشفت واشنطن مؤخراً عن الدوافع الكامنة وراء سعيها المحموم لفصل جنوب السودان عن شماله، مستغلّة ما يمكننا وصفه ببساطة أو سذاجة عدد من قادة الحركة الشعبية التواقين لإقامة دولة جنوبية يتسنى لهم حكمها بعيداً عن الشمال ويفعلون فيها ما يحلو لهم. دوافع واشنطن وراء رغبتها العارمة في فصل الجنوب في الجزء الذي أظهرته الى الآن هو إقامة قاعدة عسكرية كبيرة تكون مهمتها الأولى بحسب ما اقترح الجنرال الأمريكي (وليم وورك) مكافحة الارهاب، الهاجس النفسي الأكثر الحاحاً وحضوراً في النفسية الأمريكية والذي وصل إلى مرحلة العقدة الأمنية التي لم يعد لها منها فكاكاً. من جانبها فنّدت الحكومة السودانية دوافع واشنطن هذه باعتبارها لا تتسق لا مع الواقع ولا مع المعطيات الماثلة، وقال المتحدث باسم الجيش السوداني المقدم الصوارمي خالد سعد في تصريح أوردته وكالة الأنباء السودانية – الأربعاء الماضية – إن هذا الحديث سابق لأوانه لأن شعب الجنوب السوداني لم يختر بعد إنشاء دولة ولم يمارس حقه في تقرير مصيره، مضيفاً أن الدول الافريقية التي سمحت لواشنطن باقامة قواعد عسكرية فيها لم تستفد منها بقدر ما أصبحت فقط تقدم (خدمات) للمنظومة الدفاعية الأمريكية، نافياً وجود أنشطة ارهابية تثير المخاوف في المنطقة وتستدعي انشاء قاعدة. وما من شك أن (إبراز) واشنطن لهذا الدافع هو بالفعل يبرّر شدة حرصها ورغبتها في فصل الجنوب، بعد ما كانت وإلى عهد قريب تنظر إلى السودان كبلد موحّد. واذا سلّمنا الآن بأن ما يدفع واشنطن هو بالضرورة (مصلحتها العليا) وعادتها المتوارثة في التواجد عسكرياً في بقاع مختلفة من العالم، فإن من الصعب أن نسلّم بأن قادة الحركة الشعبية – الذين وافقوا مسبقاً بقيام هذه القاعدة – تسلّحوا بالوعي الكافي لادراك مخاطر الوجود الأمريكي العسكري في إقليمهم. اذ من المؤكد أن واشنطن لا تسعى لتوفير الحماية للمواطنين الجنوبيين فهي حتى الآن في العراق وفي أفغانستان تعاني الأمرّين لدرجة أنها لم تعد تستطيع حماية جنودها أنفسهم!، كما أنها لن تسعى لتثبيت قادة الحركة الشعبية في السلطة، إذ أن المعروف عن واشنطن أنها تمضي وراء مصالحها غير عابئة بالأشخاص واذا اقتضت مصالحها ليس فقط إبدال القادة وإنما اغتيالهم وتصفيتهم، فإنها لن تتوانى في ذلك وكم من حكام أفارقة وآسيويين نصّبتهم واشنطن ثم لما سئمت وجودهم، أبعدتهم عنوة أو طوعاً. ولعل الأخطر من كل ذلك أن المنطقة الآن وكما يعلم الجميع لا تعيش أجواء أنشطة ارهابية ومن المؤكد أن قيام قاعدة في الجنوب سوف تعمل على اجتذاب من تسميهم بالارهابيين ليستهدفوا وجودها هناك وستمنح الفرصة لإيقاظ خلايا نائمة في المناطق المجاورة للإقليم، ذلك أن من المعروف أن القواعد الأمريكية أينما حلّت فهي تجندب المحاربين لها ومن ثم تصبح المنطقة بأسرها في حالة غليان متصل. لقد ارتكبت حكومة جنوب السودان خطأً لن تعي بأبعاده الآن وهي في نشوة حلمها بحكم دولة علمانية بعيدة عن دولة الشمال، وهذا الخطأ تاريخي وسيلعن قادة الحركة هذا الخطأ آلاف المرات في الغد القريب دون أن يكونوا في حالة تسمح لهم بمعالجته!!