كل المؤشرات والدلائل تشير إلى أن انفصال جنوب السودان، سيكون هو النتيجة الحتمية للاستفتاء المقرر إجراؤه مطلع العام المقبل 2011. وأيا كانت الأسباب وراء الوصول إلى مثل هذا الاحتمال، فان المستقبل لا يحمل في المقابل اية مؤشرات للتفاؤل، حول الكيفية التي سيدير بها الشمال والجنوب علاقتهما بعد الانفصال. ثمة تسليم واضح لدى الساسة السودانيين والنخبة السياسية السودانية والصحافيين، وحتى المراقبين الخارجيين، بان الانفصال هو النتيجة الحتمية للاستفتاء. وهذا مؤشر أول يقرر بوضوح ان تلك الطبقة السياسية التي استنزفت السودان إلى أقصى الحدود طيلة العقود الماضية، وصلت إلى الطريق الذي تم تفاديه بالحرب غالبا وبالحوار نادرا، منذ استقلال هذا البلد عام 1956. لقد سلم الوسطاء والأطراف الضامنة لاتفاق السلام عام 2005، بهذه النتيجة، فأخذ رئيس جنوب افريقيا السابق ثابو مبيكي رئيس لجنة الاتحاد الافريقي المكلفة متابعة ملف السودان، يتحدث عن كونفدرالية من دولتين مستقلتين أو سوق مشتركة، في حال صوت الجنوبيون لصالح خيار الانفصال. وها هو المبعوث الأميركي إلى السودان الجنرال سكوت غريشن، يقول ان «لدى المجتمع الدولي أقل من عام لنشوء دولة جديدة»، فيما يحذر تحالف من 24 منظمة حقوقية «من تفكك أكبر دولة في إفريقيا» (الشرق الأوسط 15 يوليو). يكمن التاريخ المثقل بالمرارات حتما وراء هذا الاتجاه المتنامي لانفصال الجنوب، والتصويت المتوقع لصالح الانفصال هو «تصويت عقابي»، مثلما يرى الكاتب السوداني حيدر إبراهيم علي في مقاله المعنون «انفصال الجنوب بين النزوة والحتمية التاريخية». موضحا أن مثل هذا التصويت «يحدث في الانتخابات بقصد معاقبة حزب بعينه باختيار حزب آخر، حتى وان كان غير مرغوب فيه» (جريدة الصحافة السودانية ؟ 24/5/2010). فمنذ استقلال السودان وحتى اليوم، لم تجترح الطبقة السياسية أي حل يعزز وحدته، بل إن الأحزاب السودانية التي تعاقبت على الحكم في الشمال، ظلت تمارس الهيمنة والتهميش، لا للجنوب فحسب، بل للأطراف كلها. ويقدم تمرد دارفور آخر فصول هذه الهيمنة وميراثها، ناهيك عن أن التمرد أخذ يصبغ علاقة الأطراف (الشرق والغرب) كلها بالشمال منذ أكثر من عقدين. وفي هذا الاطار، ظلت مشاريع الحلول لمشكلة الجنوب على مدى عقود، إما مشلولة ومعطلة أو لا تحظى بقبول على المستوى الوطني، لأنها تجري بين حكومة في الخرطوم وحركة تمرد في الجنوب، مع استبعاد الفرقاء الآخرين. وظلت قضية الجنوب على الدوام، بالنسبة لساسة الشمال محورا في الصراع الحزبي المحموم، أكثر من كونها قضية تتعلق بوحدة ومستقبل السودان نفسه. والأمر نفسه يجري اليوم، مع انتقاد الأحزاب الشمالية لانفراد الحزب الحاكم بقضية مصيرية مثل هذه. ويبدو أن الحزب الحاكم في الشمال والحزب الحاكم في الجنوب، ومن منطلق الحفاظ على مصالحهما يعملان بنفس الذهنية. فانفصال الجنوب يبدو ثمنا مقبولا للحزب الحاكم في الشمال، طالما بقي هو في الحكم، والأمر نفسه بالنسبة للحركة الشعبية في الجنوب. لكن من منظور واقعي أيضا، فإن الانفصال يحمل في طياته مخاوف حقيقية من عودة الحرب الأهلية إلى السودان. السبب الرئيسي قد لا يكمن في التاريخ المثقل بالمرارات، بل ثمة عنصر جديد في المعادلة هو النفط. معظم احتياطيات النفط تقع في الجنوب، وثمة مشكلة الآن تتعلق بمصير منطقة «أبيي»، وما اذا كانت ستلحق بالشمال أو الجنوب، وهي من المناطق الغنية بالنفط. إن تقاسم الثروة الذي يجري الحديث عنه، يحتاج إلى عناء كبير وخيال خلاق، وإرادة قوية لم يثبت الساسة السودانيون أنهم يمتلكونها. على هذا فإن بعض المعلقين يرون أن حكومة البشير لن تتقبل بسهولة انفصال الجنوب، وهي تعمل على تخريبه مثلما يرى ديف إيغرز وجون برندرغاست في نيويورك تايمز (يوليو 2010). كما أن التعاون المأمول بين دولتين مستقلتين، يرتكز أساسا على حاجة الجنوب إلى تصدير النفط عن طريق الموانئ السودانية، لكن هذا التعاون قد تعترضه عقبات شتى، مثل الأسعار والضرائب ومدى استعداد الشمال للتضحية بنفط الجنوب، في حال عدم كفاية الانتاج في الحقول القليلة في الشمال. ثمة عنصر آخر يزيد من شكوك نجاح ولادة دولة في جنوب السودان قابلة للحياة، هو أن الجنوب لم يشهد طيلة تاريخه أي شكل من أشكال الدولة الحديثة أو السلطة المركزية. فالفشل التاريخي لنخب الشمال في بناء دولة حديثة في السودان، يبدو مضاعفا في الجنوب الذي لم يشهد طيلة تاريخه أي عمليات تحديث، وبقي أسيراً للثقافة والانتماءات القبلية بتأثيراتها التي لا تحصى. وفي سنوات الحرب الأهلية، جرب الشماليون، وخصوصا حكومة البشير، اللعب على الانقسامات القبلية مرارا، رغم أن النجاح لم يكتب لها، لكن هذا لا يلغي أيضاً إمكانية تأثير هذا العامل في استقرار أي دولة ستنشأ في جنوب السودان. إن الوضع القبلي في جنوب السودان معقد ومتشابك إلى ابعد الحدود، ما بين قبائل «نيلية« وقبائل «استوائية»، وحتى في القبيلة الواحدة مثل قبيلة «الدينكا» مثلا أكثر قبائل الجنوب والسودان بأسره. وإذا ما أضيف إلى ذلك التنافس والصراع القديم بين الدينكا التي تشكل غالبية الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقبائل الشلك والنوير والزاندي والمورو وغيرها، فإن الحركة الشعبية تبدو في نظر الجنوبيين مثل الحزب الحاكم في الشمال، قبيلة أخرى تهيمن على الثروة والحكم. على هذا، يبدو الانفصال الذي سلم الجميع به سلفاً، نذير شر فعلا. ويحتاج الفرقاء السودانيون إلى معجزة لتفادي كل التبعات السلبية لهذا الخيار، وعلى رأسها تجدد الحرب الأهلية. كاتب وصحافي بحريني المصدر: البيان 20/7/2010