لم نكد نصدق أن المعركة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حول حدود منطقة أبيى قد انتهت بقرار محكمة لاهاي حتى استعرت معركة جديدة حول قانون الاستفتاء لتقرير مصير جنوب السودان تكاد تشمل كل جوانبه، ولم يقصر باقان أموم كعادته في تصعيد المعركة لأعلى درجاتها، وكأننا على حافة الحرب مرة ثانية. أما الفريق سلفاكير ميارديت فمحافظ على هدوئه وصمته وتفاؤله بأن الأمور مصيرها إلى الحل مهما احتدم الخلاف، وهذا شيء مطمئن إلى حد كبير. يتمثل الخلاف بين الشريكين المتشاكسين في أن المؤتمر الوطني يريد أن يجعل الانفصال أمراً صعباً؛ لأن الأصل عنده هو الوحدة التي ورثناها من المستعمر مثل بقية الدول الإفريقية التي لا يخطر ببالها إجراء استفتاءٍ على وحدة أراضيها. ويريد أن تكون عملية الاستفتاء شفافة وتحت إدارة مشتركة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الجنوب، فهو لا يأمن الحركة أن تفرض الانفصال، لا مانع لديه إن فرضت الوحدة! ومن الناحية الأخرى تريد الحركة الشعبية أن يكون خيارا الوحدة والانفصال بذات الدرجة (إن لم ترجح الانفصال!) لأن تغليب أحدهما على الآخر يضعف من حرية وطوعية الاختيار، وتريد أيضا أن تكون حكومة الجنوب هي المسيطرة على عملية الاستفتاء؛ لأن الأمر يخصها في المقام الأول ولأن ثقتها ضعيفة في نزاهة المؤتمر الوطني. واجتهد كل طرف أن يخدم قضيته من خلال تفاصيل القانون، لذلك جاء الاشتباك في كل تفاصيله. ينص دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م على الآتي بخصوص الاستفتاء لجنوب السودان: * تصدر الهيئة التشريعية القومية (المجلس الوطني ومجلس الولايات) قانون استفتاء جنوب السودان في بداية السنة الثالثة للفترة الانتقالية. (أي يوليو 2007). * تنشئ رئاسة الجمهورية مفوضية استفتاء جنوب السودان. * يجري الاستفتاء قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية (أي يناير 2011) بإشراف دولي تنظمه مفوضية الاستفتاء بالتعاون مع الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان. وفي ظل هذه الأسس الدستورية تريد الحركة الشعبية أن تحقق إستراتيجيتها عن طريق المقترحات التالية: تعيين مفوضية الاستفتاء بواسطة رئيس الجمهورية وموافقة النائب الأول (وليس فقط بالتشاور معه)، وأن يكون عدد أعضاء المفوضية تسعة (5 من الجنوب و 4 من الشمال) وأن يكون رئيس المفوضية جنوبياً ونائبه شماليا، أن يكون للمفوضية فرع في الجنوب مسؤول عن المكاتب الولائية (أي أن يدير عملية الاستفتاء في الولاياتالجنوبية العشر). وأن يكون التسجيل والاقتراع للناخبين في الجنوب مما يعني سفر الجنوبي الذي يعيش في الشمال إلى الجنوب ليسجل هناك، ويسافر مرة أخرى للتصويت! وأن من يحق له التصويت هو من يولد من أبوين جنوبيين أو أحدهما،أو ينحدر جده أو جدته من القبائل الأصيلة في جنوب السودان، أوأن يكون هو أو أحد والديه مستوطناً في الجنوب منذ الأول من يناير 1956. برزت أثناء المفاوضات تعديلات جديدة أكثر تشدداً من هذا النص المضمن في دستور جنوب السودان. تقول الحركة إن يكون الاقتراع في صندوقين مختلفين يحمل أحدهما رمزاً للوحدة والآخر رمزاً للانفصال، وأن يحرس عملية الاقتراع جنود من الجيش الشعبي، وأن يتم ترجيح الوحدة أو الانفصال بالأغلبية البسيطة ولو كانت 51% مقابل 49%. واقترح المؤتمر الوطني من جانبه أن يكون أعضاء المفوضية 15 عضواً يعينهم الرئيس بالتشاور مع النائب الأول، وأن تكون الرئاسة مشتركة بين الشريكين مثل الحال في مفوضية مراجعة الدستور، وأن يكون التسجيل والاقتراع في كل الأماكن التي يوجد بها جنوبيون داخل السودان، وأن الجنوبي هو من ولد لأبوين جنوبيين أو لأحدهما، وينتمي للجماعات الأهلية المستوطنة في جنوب السودان والمقيم في الجنوب منذ أول يناير 1956، وأن يكون التصويت في صندوق واحد بنعم أو لا للوحدة، أو على رمزين للوحدة والانفصال، وأن تكون الحراسة للقوات المدمجة. ويبدو تشدد المؤتمر الوطني إزاء الوحدة في اقتراحه أن تكون نسبة المسجلين للاستفتاء تبلغ 75% من عدد الجنوبيين المؤهلين للتصويت، وأن لا تقل نسبة المقترعين في الاستفتاء عن 75%، وأن يرجح الانفصال في حال التصويت له بنسبة 75%، أما ترجيح الوحدة فلا يحتاج إلى أكثر من 51%! واكتشف المؤتمر الوطني متأخراً -بعد أن أعياه الوصول إلى اتفاق مع الحركة داخل لجنتهما السياسية المشتركة- أن قانون الاستفتاء يهم الشعب السوداني قاطبة وكل القوى السياسية، ولا بد من إشراك هذه القوى عن طريق مفوضية مراجعة الدستور فتقرر إحالة القانون لها. ولم يكن الوضع في مفوضية الدستور بأحسن من اللجنة السياسية المشتركة، فحولت القانون إلى لجنة فرعية برئاسة تاج السر محمد صالح، وأحالت هذه بدورها الأمر إلى لجنة مصغرة برئاسة فيصل خضر مكي، ووصلت كلها إلى طريق مسدود لأن الطرفين المتشاكسين موجودان بنفس النسب في اللجان المختلفة. وهنا فجر باقان أموم قنبلته في مؤتمر صحفي: إذا تعذر علينا الوصول إلى اتفاق حول قانون الاستفتاء فإن الحركة الشعبية مستعدة لإعلان الانفصال من داخل برلمان الجنوب، ولنا سابقة في برلمان السودان عام 1955 حين أعلن استقلال البلاد دون إجراء الاستفتاء الذي نصّت عليه اتفاقية الحكم الذاتي. وفات على باقان أن الاختلاف كبير بين الحالتين: في الأولى هو استقلال لبلد موحد من دولة مستعمرة (بكسر الميم الثانية) في حين أن الثانية انفصال من بلد واحد، والبرلمان الأول قومي منتخب يمثل كل السودان، وأجاز قراره بالإجماع في حين أن الثاني برلمان إقليمي معين تسيطر عليه حركة عسكرية. وأن مثل هذا الانفصال ستترتب عليه عواقب وخيمة لأنه يجعل الطرف الحكومي في حلٍ من استكمال تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وهناك قضايا شائكة معلقة (الحدود، البترول، مياه النيل، الجنسية، ديون السودان، أصول حكومة السودان، الوحدات المدمجة، المشاورة الشعبية للنيل الأزرق وجنوب كردفان)، ستكون محل مواجهة وصراع قد يؤديان إلى حرب جديدة. ولذا نرى أن يقبل الطرفان بمفوضية الانتخابات الحالية التي يترأسها مولانا أبيل الير لإجراء استفتاء الجنوب، وأن يجرى الاستفتاء للجنوبيين في كل أنحاء السودان، وأن يكون تنظيم العملية في الولاياتالجنوبية بواسطة لجان مشتركة تكونها المفوضية، وأن يكون التصويت في صندوق واحد برمزين مختلفين للوحدة والانفصال (الصندوقان في حالة وضعهما أمام ضابط الاقتراع تنتهكان سرية التصويت وفي حالة وضعهما خلف ساتر تتيح المجال للخروج بالبطاقة وإعطائها إلى شخص آخر ليصوت بها)، وأن تتولى القوات المدمجة حماية وتأمين عملية الاستفتاء، وأن تتولى مؤسسات دولية الإشراف على الاستفتاء بمراقبة القوى السياسية والمنظمات المدنية السودانية، وأن تكون نسبة ترجيح الانفصال 60% أو أكثر من المقترعين، والوحدة بنسبة51% فقط، على أن تكون نسبة المسجلين والمقترعين في حدود 50% لكل منهما. ونسأل الله العافية من حماقات حملة البندقية! المصدر: الصحافة