لهذا الموضوع أبعاد متعددة منها البعد التاريخي والذي أسهم في تشكيل الوضع الحاضر، كما أنه يسهم في تشكيل المجري المستقبلي وكذلك فإن العلاقات السودانية المصرية فيها الجانب الرسمي وفيها الشعبي والمجتمعي ولعل المقصود هو الجانب الرسمي وإن كان الرسمي لا يمكن فصله من الجانب المجتمعي لان التعاملات المجتمعية والشعبية تتداخل مع التفاعلات الرسمية. ومع أن التداخل السوداني قديم إلا أن الذاكرة الفاعلة تتصل بالسودان المصري أو الكيان الذي أقامه أحفاد محمد علي وبرز هذا الكيان تحت اسم السودان المصري وبعد أن تم ضم دارفور الى سودان وادي النيل أو سلطنة الفونج ومناطق قبائل جنوب السودان وبرز الاعلان الرسمي في قرار رئاسي في عام 1894 اطلق فيه الخديوي اسماعيل اسم السودان المصري على هذا الكيان. ومنذ نشأة هذا الكيان اختلفت رؤى أهل السودان لوضعية مصر الدولة، فبينما رأت طائفة من أهل السودان أن مصر الدولة صنعت صنعا غير مقبول مع أحد صناع السودان وهو الزبير باشا وبدلا من مكافأته على الحاقه دارفور بالسودان المصري تم نفيه وابعاده عن السودان في جبل طارق ثم في مصر ولم يسمح له بالعودة إلاَّ في العام 1912م أي بعد سبعة وثلاثين عاماً من استدعائه من قبل الخديوي توفيق ، تحت إغراء مكافأته وهو في الحجز في مصر ثم قُتل أبناؤه الثلاثة بمن فيهم ابنه الشهير سليمان الزبير الذي اوصاه والده بأن يدخل في طاعة الحكومة المصرية. وشخصية الزبير في حد ذاتها ليست مثيرة للجدل على مستوى مصر فقط لانه في السودان هناك من يرى في الزبير بطلا قوميا يستحق التمجيد ومنهم من يراه مجرد تاجر رقيق.. وما يقال عن الزبير يقال عن عرابي باشا والمهدي وغردون والمراغنة ،فبينما مجدت طائفة من السودانيين عرابي باشا كاحد قواد الثورة المصرية وأنه مثل مع محمد عبده وجمال الدين الافغاني في حركة الثورة والجهاد المتناغمة مع المهدية ،بينما يرى في مصر نفسها رؤية لعرابي مختلفة فمثلا الشاعر الكبير أحمد شوقي كان ضد حركة عرابي بل وهجاه في قصائد ثلاث في مواضع مختلفة : قال في احداها : صغار في الذهاب وفي الاياب ****أهذا كل شأنك يا عرابي وقال ساخراً من عرابي كذلك: أهلا وسهلا بحاميها وفاديها ****ومرحبا وسلاما يا عرابيها عرابي كيف اوفيك الملامة*****فقد جمعت على ملامتك الانامة . كما أن المهدي الذي تمجده طائفة من أهل السودان وهو عند المصريين وطائفة من السودانيين محرك فتنة دينية وليس حركة اصلاحية،والسادة المراغنة الذين لهم شأن في الوضعية المصرية تنظر اليهم طوائف من السودانيين نظرة مختلفة . ومن يراه أهل السودان بطلا كالسيد عبدالرحمن المهدي او كالسيد اسماعيل الأزهري الذي أعلن الاستقلال من داخل البرلمان وضعيته في العقل المصري مختلفة حيث يرون في الأول ربما حليف للانجليز ضد القومية المصرية،كما أن شخصية الثاني شابها الاهتزاز لانه نقد عهد الوحدة وكتاب الوحدة الذي أقام عليه حملته الانتخابية ونال بذلك دعم مصر. ومع ذلك فإن مصر تعرف أهمية السودان لأن السودان يعني المياه وهي الحياة بالنسبة لمصر ويعني المستقبل لامتصاص التزايد السكاني المصري بما فيه من اراضٍ زراعية، ويعني كذلك العمق للأمن القومي المصري وقد صح ذلك بعد حرب الأيام الستة حينما انتقلت مصر بطيرانها وقيادة جيشها الى الخرطوم،كما أن الخرطوم كانت اراضي الملجأ والملاذ لمصر بما عرف بمؤتمر الخرطوم الذي عقد خارج نطاق الجامعة العربية ولم يحضره حتى أمين الجامعة عبدالخالق حسونة، وأشرف عليه الثنائي السوداني اسماعيل الازهري ومحمد أحمد محجوب. اذن اختلفت الرؤى السودانية المصرية لتقييم التاريخ وتقييم الاحداث وبينما تنظر النخبة السودانية لنفسها كند للنخبة المصرية الا أن الثانية تنظر للسودان كالشقيق الاصغر الذي عليه أن يكون في القاطرة المصرية يقف في محطاتها ولا يخرج عن مسارها وقل ما خرج السودان عن مسار القاطرة المصرية وذلك في موضعين حينما رفع اسماعيل الازهري علم الاستقلال وحينما صعد عبدالله خليل لهجته مع مصر ضد قضية حلايب . ومهما يكن فإن أهم القضايا التي تشغل العقلين المصري والسوداني تتلخص في: استلام الحركة الاسلامية للسلطة السياسية في السودان وما يستتبع ذلك على توجهات وعلاقات النخبة العلمانية الحاكمة في مصر ويؤثر كذلك على ارتباطاتها الاقليمية والدولية وقد ادى ذلك الى تعقيدات كثيرة كان أبرزها تصاعد اللهجة وحرب إرجاع الطائرات في العام 1994 والتي كان ضحيتها المسافر السوداني للعلاج وغيره ثم تداعيات حادث اغتيال الرئيس مبارك وفرض الامر الواقع للقوة في حلايب. ثانيا: قضية مياه النيل والتي لا تزال تداعياتها وتفاعلاتها مستمرة. ثالثا :قضية التكامل الاقتصادي والسياسي في طبعته الاخيرة أو ما يسمى بالحريات الاربع والتي التزم بها الجانب السوداني ولم تكمل مصر الى الآن التزامها بمقتضيات الاتفاق . رابعا: تداعيات الأوضاع السودانية ممثلة في اتفاقية السلام في جنوب السودان وتفاعلات تقرير المصير وقضية دارفور والتي تم تسويقها في الاطارين الاقليمي والدولي دون رجوع لمصر حتى اصبحت مصر بعيدة عن هذه القضايا لانها مع الجنوب فيما يتصل بمستقبل اوضاع حوض النيل وقضية دارفور تتلامس مع أمن مصر القومي لان لدارفور حدوداً مع مصر. خامسا: أمن البحر الاحمر وأمن المنطقة المشاطئة له خصوصا أن هنالك قبائل مشتركة تتحرك في هذه المناطق مثل العبابدة والرشايدة والبشاريين وتمثل هذه المنطقة بعداً امنياً لاسرائيل وشهدت عنفاً عسكرياً اكثر من منطقة . سادسا: تتباين الرؤى في السياسة الخارجية، فللسودان علاقات مع ايران ومصر علاقتها مع اسرائيل والمعسكر الغربي تمنعها من التواصل مع ايران وكذلك حماس بينما السودان ليس لديه خطوط حمراء في هذه المواضع كما كان من المكدرات رفض السودان للمشاركة في حرب الخليج الاولى والثانية بينما كانت مصر جزءاً من روحها . هذه الاشكالات جعلت السودان يفتح منافذ جديدة للمجتمع السوداني حيث أصبح الاردن قبلة للعلاج وعلى حساب مصر كما اصبحت السوق السودانية تتفاعل مع السوق الصينية والماليزية والاندونيسية والتركية والخليجية بينما لم تنمُ التجارة السودانية المصرية مثل النمو الذي شهدته علائق السودان مع هذه الدول ويكفي ان كشف المسجلين للانتخابات في قطر في كشف الانتخابات الرئاسية كان اكبر من مصر ستة آلاف مسجل في قطر واربعة في مصر، كما ان محاولات قطر للاسهام في حل الاشكالات السودانية يبدو وكأنه الاهم- حالة دارفور وغيرها. وفي ظل الضغوط المتراكمة على السودان ترى النخبة السودانية أن مصر لم تقم بدورها الكافي في تخفيف هذه الضغوط بل إن مصر ابعدت النخبة في غضبتها على السودان بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك حينما دعت مجلس الامن لفرض عقوبات على السودان ومع أن مصر صححت غلطتها وطالبت بتخفيف العقوبات الا أن سجلها ظل يزداد ويتراكم منذ ذلك الحين مما اى الى أن اصبح المواطن السوداني ضحية لتراكمات هذه العقوبات. مهما يكن فإن هناك وعياً الآن إن السودان يخسر كثيراً إن بعد عن المظلة المصرية، كما أن مصر وعت درس أهمية السودان بعد بروز قضية المياه وارتباط الأمن القومي السوداني بالأمن القومي المصري.. ولعل العقلين المصري والسوداني يراهنان على تكامل هذا الوعي وبمقدار التفاعل والتكامل الحادث يتحدد مستقبل العلاقات السودانية المصرية ... والله اعلم