لعل من أحسن تعريفات السياسة أنها فعل الممكن ، وهذا شعار صالح للفرد في حياته وللمصلحين والدعاة في مجتمعاتهم. ذلك لأن الاستعجال من طبع البشر، وهو وإن كان حسنا أحيانا إلا أنه شيطان في أكثر الأحيان. ولعل التجارب الكثيرة والمريرة في حياة الشعوب وفي حياة المصلحين وفي تاريخ الساسة والقادة، بل في حياة المرء الشخصية وفي اموره الخاصة قبل العامة، لهي خير شاهد وخير دليل على عواقب الاستعجال ومالاته، لعل من أقلها خسران ما استعجله المرء، وكثيرا ما تكون النتيجة ضياع وفشل وخسارة في كل شئ وسقوط إلى الحضيض والمهاوي والحسرة والندم، قد يعسر على المرء النهوض بعده وتدارك ما فات. وفي القرآن ذم لطبع العجلة في الإنسان في موضعين: قال تعالى في سورة الإسراء الآية 11: (وكان الإنسان عجولا) ، وقال تعالى في سورة الأنبياء آية 37: (خلق الإنسان من عجل)، وهذا يعني أن طبع الإنسان العجلة ، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ولما كان ذلك هو الطبع الغالب على الإنسان ولا شك أن عواقب ذلك وخيمة بسبب أن ذلك لا يدع المرء يتفكر في العواقب ومألات الأمور فيخطئ في حساباته وتوقعاته ، بل قد يقدم على التصرف من غير حسابات ولا تفكر ولا روية. ومن أجل ضرر العجلة قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي (العجلة من الشيطان والأناة من الله تعالى). والأناة -والتأني في رواية – هي التمهل في الامور والتثبت فيها وترك الاستعجال. وهذه صفة يحبها الله تعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه فيما رواه مسلم وغيره: (إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة). فليت كل عاقل يتفكر في ذلك وياخذ من تجاربه الشخصية ومن تجارب غيره ومن حوادث الأيام وتاريخ الشعوب ما يكون له دروسا تقنعه بترك الاستعجال ومغالبة كل ما يدعو إلى الوقوع في هذه الخطيئة المميتة المهلكة. ولعل دعاة التغيير والإصلاح والدعوة يسمعون ويعون ذلك بعقولهم وقلوبهم حتى لا ينقلب إصلاحهم إفسادا وتغييرهم تعييرا، ولا يتصرفون كالثور في مستودع الخزف! وليكن شعار الكل قول عمرو بن معدي كرب في قصيدته المشهورة: إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع أو ما يعبر عنه في تعريف السياسة انها فعل الممكن، فتلك نعم السياسة . بها يصلح الفرد وتصلح الجماعات ويصلح الإصلاح! ومن الكلمات المضيئة في هذا ما قاله الاستاذ حسن البنا فيما ينبغي أن يكتب بماء الذهب: ( ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض) فهل ينصلح إصلاح من يدعون الإصلاح حتى لا يكونوا مثل من قال الله تعالى فيهم: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) سوة البقرة أية 11. يعني إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا . بقلم الاستاذ بسطامي محمد سعيد خير