بسم الله الرحمن الرحيم عودة محاكم التفتيش..! محاكم التفتيش تمثل الذاكرة المأساوية للتجربة البشرية في تعاملها مع الحياة، وفي شكل العلاقات بين البشر، وطبيعة السلطات الحاكمة، او كيفية إدارة العلاقات بين البشر من جانب ومع الحياة من الجانب الآخر. وفترة محاكم التفتيش او محاكم نبش الضمائر ومغالطة السرائر او إكراه الدواخل! وصفت عن حق بأنها فترة الظلام، ليس علي مستوي التدني المادي فقط! ولكن بصورة أساسية علي مستوي التردي الحضاري والتراجع الإنساني، والتطبع مع العنف والتآلف مع الوحشية والقبح العام. وعلي الرغم من مأساوية محاكم التفتيش، إلا أنها مثلت من جانب آخر، بداية التحرر من الإضطهاد الديني والدنيوي، ومقاومة الطغيان، وإنفتاح العقل الإنساني علي مقاربات جديدة للدنيا، وقراءات مفتوحة للدين، أي تحرير الدين من الإحتكار لدي القلة او الخواص وإتاحته للجميع! أي فك الإرتباط بين الدين(الروح) والدنيا(المصالح المادية) وبين الأفراد(الرغبات) والنصوص(مبادئ عامة)، أي إمتلاك الحياة والدين بواسطة المواطنين من دون وسطاء. وبتعبير واضح، إنبلاج فجر الحداثة من ظلام أخطاءها(محاكم التفتيش) وركام فظائعها، ومفارقتها للفطرة الإنسانية السليمة. أي إمكانات الحداثة متوافرة مهما كانت درجة غتامة البيئة المحيطة! بمعني، إن الإرادة الحرة او الإرادة العامة للتغيير والإصلاح والتحرر، وتحسين شروط الحياة، هي من إنتصرت في النهاية. علي الرغم من قلة المعينات والمعينين، وكثرة المناوئين وأصحاب المصالح الخاصة والمشككين والخائفين. إلا أن ذلك لم يتم مجانا، ولكنه تم عبر قدر هائل من التضحيات والمضايقات، ليس من قبل الجهة السلطوية فقط، ولكن حتي من قبل الجهة الإجتماعية، أي من يستهدفهم التغيير ويأمل في تحسين شروط حياتهم! وإحتمال ذلك بحكم عبادة العادة وسلطة التقاليد والرغبة المرضية في الإستقرار الكاذب! وقد يكون هذا جزء من سخرية الأقدار او مرارتها! وبقول محدد، ثمن نضج البشرية او وضع أقدامها في طريق الحرية الشخصية والدينية والفكرية، وصولا الي الحرية السياسية، ودور الفرد في تحديد نظام الحكم وطريقة الحكم وإختيار من يحكم، لم يكن باهظا فقط! ولكنه أيضا معرض للنكوص والتدهور والتراجع. إذا لم يجد حماته والمؤمنون بأهمية بقاء قوانينه ونظمه، كمبادئ عامة لأ محيد عنها، الوسائل والأدوات الفعَّالة للمحافظة عليه. ليس علي مستوي الهياكل فقط، ولكن الأهم علي مستوي الوعي و الضمائر! وذلك لأن الإنتكاسة، تشكل ضربة موجعة وإهدار لفرصة ثمينة، تم صنعها بطعم الدماء ونكهة التضحيات الغالية، من قبل رموز أعطت ولم تستبقِ شيئا. كما أن وجود هذه المنظومة المؤسسة في الحكم، والنهج التداولي للوصول الي السلطة، والقدرة الذاتية علي إبراز الأفضل او علي الأقل الأنسب. يشجع علي التطور من ناحية، ويمتنع علي الإرتداد الي حياة البرية مرة أخري، حيث القوي آكل والضعيف مأكول، او حيث لأ معني للحق والقانون والأخلاق، أي حيث لأ معني للإنسان بوصفه إنسان! و محاكم التفتيش لم تكتسب هذه السمعة السيئة، بسبب تكوينها او فظائع إرتكاباتها فقط، ولكن لأنها تُحاكم علي النوايا او الدواخل، او ما لأ يمكن إثباته او نفيه! اي لا تملك ما لأ تستقيم المحاكم إلا به، أي ما يبرر وجودها واللجوء اليها أي وظيفتها! بمعني ما لأ يمكن ضبطه برؤية العين او حكم العقل، أي الوصول إليه بالتسلسل المنطقي للأحداث والوقائع! بمعني أنها تحاكم بتجاوز الظاهر والوقائع، لتقفز مباشرة، الي النوايا والخفايا! وذلك ليس عن رغبة في كشف الحقائق او إبراء لذمة العدالة والإنصاف! ولكن بالتحديد من أجل تحقيق غايات مصلحية، سواء أكانت سياسية سلطوية او رغبات شخصية. أي من أجل التخلص من الخصوم، وإمتلاك شرعية القضاء عليهم! وتأبيد المصالح لدي الجهة الحاكمة او المُصَمِمة للمحاكم وموجهة لمُنفذيها! بمعني أن خُلاصة محاكم التفتيش، هي آلية لبقاء الأوضاع علي حالها، من أجل إستدامة الإمتيازات التي تخلقها هذه الأوضاع لبعض الأفرد. ولأ ينفي ذلك أن تتلبس هذه المصالح والإمتيازات، العقائد والأديان لشدة تأثيرها وسطوتها. وعلي إعتبار أن للأديان وكلاء علي الأرض، يقومون بواجباتها ويؤدون فروضها ويدافعون ضد التجاوزات في حقها! عبر تفويض إلهي أكتسبوه بواسطة القدرات الخاصة او العائلية حينا، والتعلم والتعليم في أحايين أخري! أي كورثة للأنبياء، ليس في بساطتهم وزهدهم وحبهم الخير للجميع، وإنتماءهم فطريا ووظيفيا للعدل والحق والأمانة والصدق..الخ. ولكن في سلطاتهم المطلقة، المتعالية علي التساؤل او الإعتراض او مجرد النقاش، فهي لأ تحتمل إلا القبول المطلق وعن صمت، بل وبرضا تام. وهي بالطبع سلطات موجهة حصريا، تجاه مصالح هؤلاء الورثة وطموحاتهم وأسرهم ودائرتهم الخاصة! بهذا تصبح محاكم التفتيش ليست تعبير عن مرحلة تاريخية محددة، ولكنها حالة ملازمة لبيئات الطغيان والدكتاتوريات والفساد، أي حالة ملازمة لغياب الشرعية الجماهيرية ورقابة المواطنين. بل تمثل جدار سميك، لصد الجماهير عن المطالبة بحقوقها وإرهابها وزجرها، بإحاطتها بسلسلة لأ تنتهي من المقدسات والنواهي والأوامر، حتي تكاد تغطي كل جنبات حياتها وممارساتها اليومية. بتعبير آخر، قهرها داخليا من خلال تعظيِّم الرقابة الذاتية علي العقل والنفس والضمير! أي بخلق الإنسان المشوه الذي يتعايش مع الظلم والقهر والفساد، ويمتنع علي الرفض او مجرد الإستنكار، وإلا تعرض للخطر! وكما ذكر سابقا، تعمل كآلية تشويه ومن ثم تمهيد للتخلص من الخصوم الحقيقيين او المحتملين، وإستغلال الدين او العقائد في ذلك الصراع الدنيوي المحض! أي نقل الصراع من مجال التنافس العادل بين القدرات او المواهب الشخصية للمتنافسين، الي منطقة القداسة، حيث تحريم التنافس مبدأً، ولأ شرعية المساواة مع نسل الأنبياء او شجرة نسب الصالحين! ولأ مكان في صراع السلطة والمصالح، لكلكم من آدم وآدم من تراب! بهذا المعني، تصبح محكمة التفتيش ليست مقصودة لذاتها، أي ليست محكمة لفصل المنازعات بين المتحاكمين، او لتصحيح مسار العقيدة كما يتوهم ظاهريا! ولكنها تضحي آلية آيدويولوجية تتخطي أطراف المحاكمات وطبيعة القضايا، الي إرسال رسائل محددة مفادها، سيطرة وطغيان ونفوذ الآيدويولوجية الحاكمة، ونفاذية أحكامها ورغباتها. وسلطانها المطلق في السيطرة، ليس علي الماضي والحاضر، ولأ علي الظاهر والواقع فقط، ولكنها تملك السيطرة علي الباطن والغيب أيضا، ونوايا المحكومين ورغباتهم وأقدارهم ومصيرهم! وذلك بالطبع بعد السيطرة علي أجسادهم وحركاتهم وسكناتهم! بمعني أن هنالك سلطة واحدة تحكم، وجهة واحة تعلم بمصالح المواطنين أكثر من أنفسهم! وهي أدري بالتعبير عنها وممارستها، وتاليا يغدو الإعتراض علي رايها او عقيدتها او آيدويولوجيتها، ومهما كانت درجة غرائبيتها وطغيانها وجهلها! هو طعن في المصلحة العامة والعقيدة العام والراي العام! أي السلطة هي من يمثل الفضاء والصالح العام، ولكن من أرضية شديدة الخصوصية، وعبر دائرة أكثر خصوصية، أي خاصة الخاصة. وسلطة كهذه من الضرورة بمكان، أن تعمل بشكل فضفاض وحمال أوجه، وتمارس نهج تبادل الأدوار. يشغل فيها الأقل كفاءة والأكثر إندفاع، موقع المصادم(حامل وجه القباحة)، أما المُسيطرون الفعليون، فهم دائما في موقع التعقل والرفعة من المنظومة! أي حامين حمي المصلحة العامة، او المرجعية لتصحيح أخطاء القُصر، بتوضيح موقف المنظومة الأصل! وعموما هو موقف يتخذ بعد وقوع الواقعة وجرد حساب الربح والخسارة، أي موقف المبدئية المراوغة! بمعني، إن المحاكم وغيرها من مؤسسات الإنقاذ، دون مؤسسة الرئاسة. تعمل كأذرع وآليات إختبار، او بالونات إختبار، لمدي مقبولية او مشروعية كثير من القرارات والمشاريع، المُنافية للواقع والصادمة للحس الحضاري او المبررة للفساد، ومن ضمنها بالطبع الجهات الواضعة للقوانين المتعارضة مع الدستور نفسه! وهذه ليست بدعة ولكنها ممارسة تتسق مع الغرض من وضع الدستور ذاته! أي ليس كوثيقة تحمل مبادئ عامة ومشتركة، وآليات لضبط الحكم بمرجعية حاكمة للجميع. ولكنه يعمل بالتحديد كآلية لتطمين المخاوف ورفع الحرج وتبرير المخالفات، أي مثالية الدستور مقابل سوء الأفعال! أي الدستور يلعب في هذه الحالة الواجهة الأكثر تحضر وعقلانية، والمرتبطة حصريا بمؤسسة الرئاسة او من يشغل الإمتياز المطلقة في هذه المنظومة، سواء كان ماديا او معنويا! أي إذا كانت القرارات والمشاريع المطروحة مقبولة ووجدت تأييد، فهي من بنات أفكار مؤسسة الرئاسة، أما إذا كانت عكس ذلك ووجدت رفض وإعتراض، فتحال مباشرة الي ما دون مؤسسة الرئاسة، اي مؤسسة الرئاسة تمثل الخير العام والدائم علي الدوام! بتعبير آخر، أنه لأ توجد مؤسسات دولة بالمعني المتعارف عليه في الدول الحديثة، داخل هذه المنظومة الإنقاذوية المعادية للدولة الحديثة، تكوينيا ووظيفيا وعصريا! وأن ما يري أنه مؤسسات اوهيئات او محاكم او مراكز بحوث، لأ يتعدي دور أدوات الزينة وتغبيش الرؤية وإخفاء الحقائق وتبرير أخطاء وتقصير مؤسسة الرئاسة هذا من جانب، و من الجانب الآخر كتعبيرات مقبولة او ناعمة لفرض السلطة المطلقة والفساد المطلق، الذي يحرك هذه المنظومة الظلامية! بمعني، إن هذه المحاكم و المؤسسات والهيئات لأ تنطلق في أداءها من الوظيفة التي تمثلها او تُعرف بها! او لتوجيه خدمة للمواطنين كما يفترض نظريا ودستوريا! ولكنها تنطلق في وظيفتها حصريا، من أفق تلبية رغبات او ما يعتقد أنها مطالب الجهات الحاكمة، او المُعيِّنة لمن يعتلي قيادة تلك المؤسسات او من يشغل موقع مؤثر في تلك الوظائف! وما يفيض عن تلك الغايات يمكن أن يُمن به علي الجمهور! أليست راحة الجمهور من راحة قادته ورؤسائه وحاكميه؟ أي خلاصة المجتمع ونجومه الزواهر؟!! إذا صح ذلك، تصبح القرارات العجيبة التي يصدرها البعض، والمحاكمات الهزلية التي تعلنها بعض المحاكم، والأحكام الجزافية التي يصدرها بعض القضاة! والتي تجافي المشاعر الإنسانية وروح العدالة وتخاصم الحس الحضاري، والتي تظهر كل حين وأوان! هي نوع من المزايدة التي يُبديها بعض القضاة او رؤساء المصالح والمؤسسات، كنوع من إظهار درجة عالية من الولاء للجهات الحاكمة، وتاليا حيازة المزيد من الإميتازات والمناصب! ولأ عزاء، لأ للمعقولية او المصداقية او إحترام مشاعر وعقول المحكومين! وكلما كان القرار أكثر تماس مع العقيدة التي تتبناها الجماعة الحاكمة، كلما كان أكثر وقعا وحافزا وجلبا للمصالح الخاصة! ولكن ما لا يعلمه اولئك المزايدون في إندفاعهم وطموحهم الأعمي، أنه أيضا قد يكون الأكثر تبعات! أي قد يقدم صاحبه كقربان! إذا ما أنحرف القرار عن مسار التوقعات، وجلب معه حالة عارمة من الأستنكار والرفض. أي يطاح براس صاحبه، لتهدأت الأوضاع المنفلته او الرفض الكاسح من قبل المحكومين، و خاصة الناشطين سياسيا في الساحة السياسية والإعلامية، او من يعتقد أنهم سيستغلونه لمناهضة السلطة الحاكمة. علي إيقاع هذه الخلفية السابقة تأتي محاكمة مريم يحي إبراهيم، لإعتبارها مرتدة عن الإسلام الي المسيحية، وهي قضية تعود بدايتها الي شهر أغسطس من العام الماضي، كما ظهر في بعض التقارير الإخبارية، وذلك بتوجيه تهمة الردة والزنا لها، بسبب زواجها من مسيحي وعدم تردديها او النطق بالشهادتين علي دارج فعل المسلمين، او ما يعتقد أن الإسلام لأ يتم إلا به!(ألا يثير توقيت المحاكمة الآن وتزامنها مع قضايا الفساد المتفجرة التساؤل غير البرئ!). والمفارقة أن المتهمة، لها أبن عمره يقارب العامين وهي تنتظر مولود آخر بعد شهر تقريبا من صدور هذا الحكم(قمة الحسانية/المثل). وبعيدا عن الجوانب الشرعية والقانونية، التي أوفاها حقها الدكتور الحجة عمر القراي (ردة الطبيبة أم تردي القضاء). فإن هذه المحاكمة حملت جوانب عديدة مثيرة للتساؤلات والإستغراب! فقد أثبتت أن هنالك تضارب بين الدستور الذي يبيح حرية العقيدة، وبعض القوانين التي تحرمها، قوانين الأحوال الشخصية! كما أوضحت هذه المحاكمة، أن هنالك تضارب بين إختصاصات المحاكم ذاتها، أي بين دائرة الأحوال الشخصية والمحاكم العامة! ويبدو أن هذا التضارب والأصح التناقض لم يتم إعتباطاً! ولكنه مقصود لشئ في نفس النظام! أي يريد النظام عبر هذا التناقض والتضارب في الإختصاصات، ضرب عدة عصافير بحجر واحد! أي تكوين المحاكم والأجهزة العدلية، وفي نفس الوقت إفراغها من مضمونها! أي إقناع الجمهور بشرعية الحكم والأحكام، وفي نفس الوقت منعهم من الحصول علي حقوقهم الخاصة والعامة! فهو عبر هذه المحاكم يصدر أحكام يظن أنها تصب في صالح حماية النظام ورعاية مصالحه، فإذا مر الأمر بسلام، يترك حتي يصل الي أقصي مداه، وإلا فالرجوع عنه هو الفضيلة. أي يصمم النظام دستوره وقوانينه المتضاربة علي قاعدة خط الرجعة! بمعني أن كل ممارساته وقراراته المتناقضة مبررة قانونيا او فقهيا او دستوريا! أي يمنح النظام بيده اليمني، ويأخذ نفس المنحة بيده اليسري وكله بالقانون والدستور اي عبر مؤسسات الدولة ونظمها، مثال لذلك، تمنح الدولة مرتبات ضعيفة للموظفين والعمال الغلابة، ولكنها من الناحية الأخري، تطالبهم بدفع فاتورة الكهرباء والمياه العلاج والتعليم والطعام..الخ المرتفعة الأسعار ومن دون إعتراض! ويتضح هذا التعارض بجلاء أيضا، في رؤية وزارة الخارجية لهذه القضية مثار النزاع والإهتمام! ومعلوم أن وزارة الخارجية هي الذراع الدبلوماسي والبوابة الخارجية لهذا النظام، أي الوجه الذي يستميت لكي يكون مشرقا لنظام مظلم بإمتياز! بمعني أن وزارة الخارجية تحاول أن تعبر عن رغبة الخارج ومطالبه من النظام، أكثر من كونها تعبير عن حقيقة او طبيعة النظام الذي تمثله! لذلك سارعت للتصريح بأن هذا الحكم، سيتم رفضه عند الإستئناف في محكمة أعلي، وكأنه توجيه من وزارة الخارجية لتحقيق مطالبها من تلك المحاكم الأعلي! لذلك أعتقد أن المتهمة/البريئة إذا لم تقم برفع إستئناف يتقصد تبرئتها، فإن وزارة الخارجية ستقوم به بالإنابة عنها! خاصة وهي تحاصر بكمية من الإعتراضات الدولية علي هذا العبث الحكومي الظلامي، ومعلوم أن الحكومة أكثر ما تخاف عندما يصل الأمر، الي حوش الخارج او دول الإستكبار! وبصريح العبارة، إن هذه المحاكمة الهزلية الماضوية، والتي تمت وفقا للقانون السوداني المفارق للغة العصر وعالمية حقوق الإنسان! هو نوع ومن الهمجية التي لأ تتلاءم مع العالم المتحضر، الذي تواجهه بصورة حصرية وزارة الخارجية ودبلوماسية النظام المنفصمة! أي إن هذه المحاكمات تشكل إحراج لوزارة الخارجية، التي تعمل جاهدة لتحسين صورة النظام القبيحة! بمعني أن الإعتراض ليس علي القوانين المنتجة لمثل هذه الحماقات/المحاكمات، ولكن علي المحكمة وإحتمال التوقيت! وبهذا الدور تعمل وزارة الخارجية(كالمحلل) الذي يكسب السلوك الهمجي للنظام، صبغة شرعية ومقبولية دولية عبر خلق بعض المبررات الواهية، كإمكانية المعالجة في درجة تقاضي أعلي وغيرها من المبررات، التي يعاني طاقم وزارة الخارجية نفسه في سبيل تصديقها، إذا صح أن الدبلوماسيين أذكياء! وبالعودة لموضوع المحاكمة ذاتها، فقضية من هذه النوعية، غير مفارقتها للواقع والضمير، فهي تشغل نفسها في مجال ليس من إختصاصها فقط! بل يمثل التحكم به هو المحال بعينه! أي مسألة الضمير والنيات وحقائقها او مدار العقائد عموما، فهي مسائل تقع في دائرة غير المكتشف مطلقا، كما أنها تتعالي علي أي ضبط عقلاني او واقعي! لذلك مسألة الحكم او الحسم فيها متروكة للرب وحده، أي دائرة إختصاصها محكمة ومحاكمة الرب لأ غير! ويصح أن هنالك علامات او ملامح(لا جزم فيها) قد تظهر المتدين او اصحاب العقيدة المعينة، ولكن الأكثر صحة أن هذه العلامات الظاهرية، قد يتم توظيفها وإستغلالها لغير مقصدها الحقيقي! كما أن هنالك النفاق وقانونه الحاكم، والذي يلازم هذه العقائد او غيرها من الآيدويولوجيات ومظان المصالح، لضعاف النفوس، أسري الأنانية والطموحات الشخصية غير المنضبطة! وتاليا يستعصي حسم هذا الأمر سواء أمام المحاكم او أمام الجمهور، وسواء نطق به اللسان او صدقه القلم! ولكن المؤكد أن الحقائق تظل مجهولة ومعلقة، ولأ يعلم حقيقتها يقينا غير صاحبها وخالقه. من هذه الزاوية يعتبر تدخل المحاكم في هذا الشأن، هو نوع من الإعتباط المؤدي للفساد والتوظيف والإستغلال هذا من ناحية، أما من الناحية الأخري، فمثل هذه المحاكمات الغيبية، تحرف المحاكم عن دورها ووظيفتها، في الفصل بين المنازعات الواقعية والعملية والجرائم وتعطيلها سير الحياة والنظام والقانون! بمعني، إن الغرض من القانون وتاليا المحاكم، هو تنظيم الحياة وحفظ حقوق المواطنين وبث الأمن والطمأنينة في النفوس. وليس البحث عن نواياهم وتصحيح عقائدهم، لأنه شأن شخصي وخارج نطاق دائرة عمل المحاكم من ناحية عقلية وعملية! كما أنه لأ يمثل ناحية إيجابية، سواء للقانون وتطبيقه او للمواطنين وصيانة حقوقهم! بل العكس هو الصحيح، أي حالة التداخل بين الإختصاصات وغياب الفواصل بين المجالات، هي سمة للإضطرابات وفقدان البوصلة للدولة وتاليا المجتمع! أي حقيقة المسألة سياسية دنيوية وليست دينية آخروية! لذلك صرف الإنتباه نحو هذه المسائل والقضايا هو نوع من الهروب الي الأمام، او الإعتراف بالعجز عن مواجهة حقائق الواقع، المشبع بالظلم والفساد وسيطرة القهر وسطوة الخراب! بتعبير آخر، هو نوع من المتاجرة العاطفية بدين الغالبية، وتصويره وكأنه في خطر. ولكن الأكثر تأكيد وفي كل الأحوال، أن هذه المحاكمة ومن خلفها القوانين المبررة لها، هي رد عملي لغياب دولة المواطنة وإحترام تباين العقائد والقبائل والإجتماع المحلي! أي كأن للدولة دين أفضل من دين، وتاليا مجتمع أفضل من مجتمع وثقافة أفضل وجهة أفضل..الخ، وهذا بدوره سبب كافٍ لديمومة المنازعات والصراعات والحروبات، وفتح لأبواب جهنم الفتن ومستنقعات الفساد. وتاليا ذهاب ريح الدولة ذاتها سواء أكانت متدينة او من غير دين! ولكن الأكثر ألم وأسف من هذه المحاكمة وبهذه الكيفية وفي هذا التوقيت، غير أنها تعيد للأذهان فضيحة محاكمة/مقتلة الشهيد محمود محمد طه، وخطورة خلط الدين بالسياسية، او تحويل الإختلافات في الراي وشرعية المنافسة بين الأفراد او التنظيمات السياسية، الي عملية تصفية جسدية جبانة للخصوم، وصبغ الممارسة السياسية بالدماء بدلا عن دفع مضامين السلمية والروح الرياضة في شرايينها! فهي تستهين بحكم تبرئة الشهيد محمود وإبطال حكم الردة والأصح توظيفه سياسيا، وأيضا إستهانتها بذاكرة الرفض لتلك المحاكمة المتخلفة الجائرة. بل تحاول من جديد إهدار دم الشهيد محمود وإزدراء تضحياته وثباته الأسطوري علي المبدأ في وجه القتلة الطغاة! ولكن الأخطر من ذلك أنها تختبر الجمهور السوداني، هل وعي الدرس؟ أم ما زال يعتقد أن في السم شفاء او بعض الشفاء!! ولكن كل ذلك لأ يمنع بل يستوجب، أن تضع الدولة القوانين والدساتير، التي تمنع الإساءة للعقائد عامة ولأتباعها علي سبيل الخصوص، وكذلك محاولة التمييز علي أساسها او منح بعضها أولولية، لأن ذلك غير أنه يتنافي مع فرصة تعايشها، فإنه لأ يشجع علي توفير بيئة تسمح بإجراء نقاش حر ومفتوح حولها، وتاليا الدخول والخروج منها وفق الرغبات والقناعات الشخصية، وفي أجواء من السلامة والطمأنينة، وتحت حماية القانون! ومعلوم سلفا أن هذا شرط شارط للإيمان بها او إعتناقها بصدق. لأن في هذا ليس مصلحة للإفراد فقط! ولكن لتطور الأديان والعقائد ذاتها، أي منحها درجة عالية من المعقولية والمصداقية والتعبير عن نفسها بصورة أكثر إقناع وجذب حتي لغير المتدينين. وذلك لما تحمله الأديان نفسها من أجوبة لأسئلة وجودية وفلسفية، تستعصي حتي علي العلوم المادية في أقصي درجات تطورها وفتوحاتها. لسبب بسيط، وهو عدم إندراجها في مجالها، إلا كوسائل مساعدة لأ تمس صلب العقيدة. أي بإعتبار الدين حاجة إنسانية روحية، كغيرها من الحاجات المادية الجسدية، بل بصورة أعظم منها. وذلك بالطبع بعد تخليص الطبيعة البشرية من حب الظهور والتميز ولو بعبادة العقل او تحويله الي عقيدة موازية تتستر بنمجزاته العلمية، كنوع من العبقرية الأرضية المكتسبة لدي الشواذ عقليا او أصحاب القدرات الخاصة، التي تستعلي علي الإشتراك مع المتدينين البسطاء في مجال مشترك! أي بإعتباره يفسد التميز والعبقرية المتوهمة!! وعموما المشكلة ليست في الأديان كأديان او مكانتها في الحياة او مدار عملها، ولكنها تنصب بالتحديد علي المتعصبين ومتبني الإصوليات الدينية بل حتي الوضعية! أي هي إنعكاس لمخاوفهم وعقدهم ومعاناتهم المرضية العصبية والنفسية! أي كما تكونوا عقلانين يكون الدين عقلاني والعكس صحيح! وذلك لأن حماية الدين التي يدعي المتعصبون الوصاية عليه، هي مسؤولية خالقه، أما مسؤولية الأفراد فتتمثل في كيفية التعامل مع الدين والدنيا، وناتج هذا التفاعل، هل هو خير وأمن ونماء أم حرب وفساد وعناء. لذلك لأ يجب حصر القضية في مجرد محاكمة جائرة لإمراة وقهرها عقائديا وإجتماعيا، ولكن يجب أن تتوجه المناهضة للقونين التي علي ضوءها تمت محاكمتها، لقطع الطريق أمام إستغلالها وتوظيفها لمصلحة النظام غير الرشيد، في كل مرة يواجه مشكلة او أزمة ما، وما أكثرها. وقبل ذلك الوقوف بحزم ضد النظام الذي أنتج تلك القوانين المعيبة، التي تستهدف بالتحديد، قهر المواطن وتدجينه وسلبه حريته وكرامته، وتاليا نقله الي هامش الحياة كمتلقي سلبي، بدلا من أن يكون مشاركا إيجابيا فيها، كأبسط حقوقه! ولكن ذلك لأ يمنع الوقوف بصلابة معها في محنتها ومحاولات التشهير بها، والإساءة للمسيحين والإساءة لعقيدتهم، بتصوير التحول إليها كأنه جريمة تستوجب العقاب! اي في هذه المحاكمة إساءة بالغة لمشاعر المسيحين، ولكن العكس أيضا صحيح، أي التحول من المسيحية الي الإسلام، يجب ألا يواجه بالرفض والإعتراض وشق الجيوب ولطم الخدود! بمعني، إن محاكمة من هذه النوعية، هي إستدعاء مستعجل للفتن الدينية، ووصفة جاهزة لنشر الكراهية في المجتمع، أي إعداد المناخ لإنزلاق البلاد الي الحرب الإهلية الهوجاء، وهي أسوأ أنواع الحروب، وهذا لو كان للحروب درجات كفعل مجنون يتسعصي علي المعايرة والقياس! ومع محاكم كهذه، ما هو الفرق بين الدولة السودانية وجماعة طالبان او تنظيم داعش او مجموعة بوكوحرام! وبكلام مختصر، يجب الإنشغال بالواقع وعذاباته وقضاياه الحيقية، من ضعف التنمية وتفشي الفساد والعطالة والإضطهاد للعناصر الأضعف في المجتمع! وكذلك الضمور الحضاري والتباطؤ في عملية الإنخراط الجدي في حركة التاريخ الراهنة بل ومصادمتها! وكيفية الإنفتاح علي الآخر والعالم والقيم العادلة والمبادئ الكبري! اي عدم الإنشغال عن مواجهة الظلم والخراب العام المرادف لوجود وإستمرار النظام، بالإنجرار خلف خلافات وتباينات هي من طبيعة الحياة، سواء أكانت دينية او قبلية او ثقافية ..الخ ولأبد من الإعتراف ببداهتها إبتداءً ومن ثم التعايش معها وإحترامها. وهذا او بقاء النظام، وعندها لأ يجدي السؤال او الإستغراب، عن نشر الخراب والتخلف و من ثم إندثار البلاد. ولأ حول ولأ قوة إلا بالله! تحية خاصة تحية خاصة نرسلها لإولئك النفر، الذين شكلوا جانب الضمير المشرق والوفاء الحي فينا. وهم يسارعون لإقامة إحتفائية خاصة لأربعينية حبيبنا الراحل محجوب شريف. كتعبير بسيط عن العرفان لما ظل يطوقنا به من فضائل وجليل أعمال وأشعار وتضحيات طوال حياته. وهو ينشغل بنا ونشكل حضور دائم ومعين لأ ينضب لأشعاره ونبض حياته ومدار وعيه وإدراكه. شكرا جزيلا يابا محجوب، شكرا جزيلا اللجنة المنظمة. شكرا وفي القلب حسرة وأمنية طفولية حقيقية وليست مجازية. أن لو كانت لي أجنحة خاصة، حتي أتمكن من الحضور العيني والطواف علي كل تلك الوجوه النيرة، فكيف لأ تنير وجوه تعشق ود شريف. ألف رحمة ونور علي روحه الطاهرة، التي لأ تعرف سواء عشق الوطن وحب المواطن. موعدنا مع فجر الحرية والديمقراطية والتنمية الشاملة والعادلة، أليس الفجر بقريب علي كل ليل طويل! عبدالله مكاوي بريد إلكتروني [email protected]