بعد أن باع والده (الوراهو والقدامو) وتخلت والدته عن حُليها وبعض مُدخراتها، حصل (أحمد) على عقد عمل من إحدى دول الخليج، عقد عادي ليس بوظيفة مُحددة أو راتب معين (مُجازفة يعني).. ذهب إلى هذه الدولة ومكث لشهور طويلة عاطلاً بعدها انفتح أمامه باب الرزق عبر أحد أقاربه هناك، الذي أخبره بأن أحد رجال الأعمال يريد عاملاً في (سوبر ماركت) قبِل بهذه الوظيفة وهو خريج جامعة عريقة، إلا أن هذا كان خياره الوحيد. ذهب لذلك الرجل الذي طلب منه جواز سفره وكل أوراقه الثبوتية على الفور، وبعد أن أخذها منه أوضح له طبيعة العمل بأنه سيعمل في (سوبر ماركت) إضافة لرعاية بعض الحيوانات، قبل بذلك، وبعدها أخذه الكفيل لأطراف المدينة، في مكان لم يتمكن فيه حتى أن يرسل مصاريف لأهله أو يتواصل مع أقاربه. استمر به الحال لعام كامل دون أن يعطيه راتب شهر واحد، وعندما يسأله عن راتبه يقول له (مش قاعد تأكل وتشرب؟)- فاض به الحال وطلب منه إعطاءه أوراقه وإخلاء سبيله لأن العمل صعب عليه وعائده غير مجزٍ، إضافة إلى أنهما عملان في عمل واحد، وغير ذلك، فهو يريد حقه حتى يلتزم بإرسال مصاريف لأهله. رفض الكفيل كل هذه المقترحات، بل وحتى أن يعطيه أوراقه الثبوتية التي هي ملكه هو فقط. وكفيله تعامل معها كصك ملكية وعبودية وأخذ يصب عليه جام غضبه ويصفه بتوصيفات عنصرية غير لائقة. سئم أحمد، هذا الأسلوب وقرر على الفور الهرب منه وترك كل ما بحوزته حتى ملابسه، وذهب لقريبه الذي أحضر له العمل وأخطره بما حدث له، إلا أن كل مساعي عتقه واسترجاع أوراقه الثبوتية، فشلت، ولم يتمكنا من استرجاعها. بعدها عرض أحمد، على كفيله أن يترك له مرتب العام كاملاً على أن يرد له مستنداته، إلا أنه رفض أن يرد له مليماً أو يرد له أوراقه، مما حدا بأحمد، المكوث سجيناً بإرادته داخل غرفة في سكن أحد أقاربه لعامين كاملين، وبعد أن فشلت كل الجهود، قرر تعريض نفسه ل(الكشة)، بعدها تمّ سجنه مثله مثل أي مجرم تسلل لدولة أخرى من غير مستندات رسمية، وبعد سجن دام شهراً كاملاً تم ترحيله للسودان، وعاد لذويه صِفر اليدين بلا حقيبة ملابس حتى، بل عاد يُقلِب كفيه على ما أنفقه من مال على الهجرة.. بالتأكيد هي قصة حقيقية ضحيتها شاب لفظه سوق العمل في بلده، و(عمل) أهله المستحيل حتى يتحصل على فرصة عمل ولو بمصروفات زهيدة تساعدهم في مقابلة متطلبات الحياة التي لا تنتهي. ففي كل يوم نسمع بأن فلاناً عاد من السفر بلا شيء لأن كفيله لم يعطه راتبه أو رفض أن ينتقل إلى عمل آخر، لأن الكفيل في غالب الأحيان يرى أن العامل هذا ملكه هو وهو من اشتراه براتبه. مشكلة حقيقية يواجهها المغتربون من أبناء بلادي، فحقوقهم مهضومة وحريتهم مفقودة وغيرهم من مغتربي الدول الأخرى يواجهون واقعاً مريراً في الدول التي تشترط نظام الكفالة في الوافدين إليها، فقد أضحت مشكلة إنسانية حقيقية تتناقلها المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان.. ففي الفترة السابقة تناقلت وسائل الإعلام الخارجية نبأ تعذيب خادمة سيرلانكية ودق مسامير على جسدها من قِبل كفيلها، وقام الأطباء بنزع (18) مسماراً وخمس إبر من جسدها بعد إجراء عملية جراحية استمرت لثلاث ساعات. وجدت هذه الجريمة استهجاناً في الأوساط الحقوقية واعتبروا الموضوع تعدياً على حرية الإنسان، واحتج المئات من سيدات سريلانكا ونشطاء حقوق الإنسان وقتها أمام سفارة تلك الدولة الخليجية، مطالبين السلطات في تلك الدولة بإجراء تحقيق مناسب بشأن تعرض الخادمة للتعذيب. ويقول المحتجون إنهم يطالبون السلطات باعتقال العائلة التي تردد أنها دقت المسامير في جسد الخادمة السريلانكية، والتي عملت لديهم لمدة (5) أشهر، وحتى الوصف-خادمة- هو وصف يقلل من مكانة الإنسان كإنسان، ويعد تمييزاً على أساس العمل، فكل عمل يدر على صاحبه رزقاً يعد عملاً يجب أن يُحترم دونما تقليل لمكانة صاحبه أو تعذيبه على إثرها. وقد شكا عدد كبير من المغتربين ممن التقتهم (الأخبار) سوء التعامل معهم من قبل كافليهم ليروي أحدهم- فضل حجب اسمه- إذ لا يزال يعمل في تلك الدولة، أن كفيله يخصم منه نسبة شهرية من مرتبه غير أنه يضطر لتجديد الإقامة سنوياً بمبالغ طائلة، هذا غير الغرامة التي أقوم بدفعها للكفيل في حال تأخرت عن الإجازة المفروضة بفترة قصيرة، عدا أننا نعمل في درجة حرارة عالية لا يشعر بها الكفيل، وفوق ذلك تجده يتغول على حقوقك.. ويصف الباحث النفسي- الاجتماعي دكتور ياسر محمد، الكفالة، بصكوك الملكية التي تعود لقرون الجاهلية، وواحدة من أشكال الاتجار بالبشر ليقول: ما يحدث الآن، نجد أن الاتجار بالبشر أخذ شكلاً آخر (خصوصاً في السودان مع كثرة المغتربين)، إذ نجد أن هنالك دولاً غنية جداً تستقبل مواطني دول فقيرة جداً، عبر وثائق قانونية تبدأ بالزيارة وتنتهي بعقد العمل الذي هو بمثابة صكوك الرِق باختلاف المُسميات. ونلاحظه بشكل كبير في مُغتربي الدول الفقيرة في الخليج وتحديداً السعودية، إذ تجد أن هنالك صكاً أشبه بالملكية يُسمى الكفالة، إذ لا يحق للعامل أن يتحرك إلا بموجب إذن من الكفيل وهو من يُحدد أين تسكُن ومتى تسافر، وعليك أن تلبي كل طلباته طوعاً أو كراهية.. وفي خطوة إيجابية نجد أن هنالك أخباراً تقول أن وزير الشؤون الاجتماعية والعمل الكويتي قال إن الحكومة الكويتية قررت إلغاء نظام الكفيل المتبع في البلاد في فبراير من العام الحالي، وأنهم بصدد وضع نظم ولوائح وقرارات تنظيمية خاصة بمواد قانون العمل الذي أقره أخيراً في مجلس الأمة الكويتي (البرلمان)، ونظام الكفيل المعمول به في معظم دول الخليج، يفرض أن يكون لكل موظف أو عامل عربي أو أجنبي كفيل من المواطنين. وفي الكويت على سبيل المثال يحتفظ الكفيل بجواز سفر العامل طوال فترة إقامته، وقد أتت خطوة الكويت هذه بعد الانتقادات الدولية التي وُجِهت لنظام دول الخليج في الكفالة وعدم تغيير رب العمل دون موافقة مُسبقة من الكفيل. وقد كانت البحرين أول دولة خليجية تتخلى عن نظام الكفيل في مايو من عام 2009م وبدأت تطبيقه في أغسطس من ذات العام، بحيث تكون الدولة هي المسؤولة عن تنظيم العمالة الأجنبية وإصدار تصاريح العمل لهم والتي يتم تجديدها كل عامين.. منظمات حقوق الإنسان وهيئات دولية متخصصة كمنظمة العمل الدولية والمنظمة العالمية للهجرة، تشدّد على أن نظام الكفالة يتعارض في أساسه مع مبادئ حقوق الإنسان وأنظمة العمل الحديثة التي تستند في مرجعيتها إلى الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق المهاجرين، وعلى رغم أن معظم دول الخليج قد صادقت على هذه الاتفاقية، إلا أن نظام الكفالة يشكل قاعدة سائدة في أسواق العمل بها، وفي هذا الصدد نجد أن التقارير تقول إن المنظمة العالمية للهجرة تواصل حوارها مع حكومات دول الخليج العربي من أجل ملاءمة أنظمة العمل فيها مع مقتضيات حقوق الإنسان والمهاجرين، ولاحظت التقارير أن هذه الدول تطبق أنظمة عمالة مؤقتة دون أنظمة الهجرة الدائمة أو الإندماج المعمول به مثلاً في الدول الأوروبية. لكنها اعتبرت أن حق تلك الدول وسيادتها في سن القوانين التي تحتاج إليها ليس محلاً للنقاش، أما استقدامها لعمالة مؤقتة، فلا يعطيها الحق في انتهاك أي حق من حقوق هؤلاء العمال المهاجرين. حررتها: صفية الصديق