يتساءل الناس ويتهامسون ، البعض إشفاقاً والبعض الآخر شماتةً ، أن انتفاضة الشعب السوداني لا زالت ضعيفة ومحصورة في بعض الشباب ، بينما الكبار وأغلب الشباب عازفون أو في أحسن الأحوال متفرجون ، مشيرين الي انتفاضة الشعب الجزائري وكيف أنها تتوسع كل يوم كماً وكيفاً .. هذه المقارنة صحيحة عموماً ولكنها لا تثير الإشفاق بمعناه السلبي (بل لا تقوم لها قائمة) اذا استحضرنا الفروق الجوهرية بين واقع الشعبين والنظامين وتطورهما التاريخي: - النظام السوداني في أساسه انقلاب عسكري عقائدي إسلاموي يمارس أعلي درجات الإقصاء والاستبداد والهيمنة الأمنية .. وإذا كان الفساد - بنسبه المتفاوتة - في كل العالم يتم في ريع الدولة ، فإن فساد الإسلامويين في السودان قائم في ممتلكات الدولة العامة ووصل الي تراب الوطن نفسه رهناً وبيعاً .. تحطيم مؤسسات الدولة أثر مباشرةً علي واقع أغلب قطاعات الشعب ، فالدولة كانت هي المخدم الأكبر في السودان (السكة حديد ومشروع الجزيرة مثالاً) ، إضافةً الي إجراءات التشريد والفصل الواسع من العمل لصالح سياسة التمكين للاسلامويين ، فضاقت فرص العمل والمعاش علي الناس ، يلهثون سحابة يومهم ضد المسغبة لتقعد بالبعض عن الالتحاق بالانتفاضة مؤقتاً .. هذه التطورات المعروفة وغيرها ، جعلت من بلادنا دولةً فاشلةً فاسدة ، رئيسها/رمزها مطلوب للعدالة الدولية مما جعله عرضة للمساومات ، إضافةً إلي أن تطور انواع ودرجات الفساد فيها جعل منها مركزاً تتشابك وتتقاطع فيه مصالح إقليمية ودولية كلها تحرص علي استمرار النظام بركائزه الأساسية الفاسدة مع تغيير رأس النظام (المحروق) عند اللزوم امتصاصاً للغضب الشعبي و "تنفيس"انتفاضته .. ولحماية جملة المصالح الطبقية والفئوية تعمل اجهزة الأمن في انسجام مع بوصلة تلك المصالح وبالضد من الدستور والقانون الذي تأسست عليه ، وفوق ذلك لرئيس النظام وبعض أعوانه مليشياتهم المسلحة "المطلوقة" اليد والسلاح في وجه الشعب ، ولبعض اركان النظام شعارات نزقة : (أضرب في مقتل) (لا تأت بأسير ، اقتل) .. وهو نظام يقوم في أحد ركائزه علي الجهوية والعنصرية ، عنصرية في كل شئ حتي في الوظائف العامة المتاحة وفي الحقوق الطبيعية .. اما النظام في الجزائر فهو امتداد لحكم جبهة التحرير الجزائرية التي قادت حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي وحقق الاستقلال عام 1962 .. هذا النظام (جيشاً وشعباً) واجه عنفاً مسلحاً واسعاً وشرساً قادته الحركات الاسلاموية المتطرفة طوال تسعينات القرن الماضي ، وبانتصار القوات المسلحة الجزائرية علي تلك التنظيمات عادت الأمور الي جبهة التحرير وصعد بوتفليقة الي سدة الرئاسة .. هذه التجربة المريرة لقوات الأمن والجيش في مواجهة العنف الاسلاموي البشع ، ودماء الجزائريين واشلاءهم في الطرقات ، انعكست علي تعاملها مع الشعب في انتفاضته الجارية في الجزائر ، التعامل الذي يشهده العالم كل يوم ؛ الجيش والأمن وقوات الدرك في الجزائر لا تواجه الشعب الثائر بالأسلحة والعنف بل تتبادل معه الحرص علي سلمية التظاهر وعلي سلامة المتظاهرين والممتلكات ، عادت الأجهزة الأمنية الي دورها الدستوري تماماً ، وهذا سبب أساسي من أسباب اتساع الانتفاضة في الجزائر رأسياً وأفقياً وفي التنازلات التي تنتزعها من السلطة .. في الجزائر ايضاً دولة عميقة ، وفيها حديث عن فساد ، ولكنه فساد في ريع الدولة وهي دولة ثرية جداً بالنفط والغاز والمعادن ، مؤسساتها وممتلكاتها العامة متينة ، وبنياتها الأساسية معقولة ، وشبكة المصالح التي تربطها بالعالم لن تتأثر كثيراً بمجرد إسقاط النظام وبالتالي لا توجد مقاومة إقليمية أو دولية لانتفاضة الشعب فيها .. ثم ان المجتمع الجزائري يخلو الي حد بعيد من العنصرية ويتمتع باندماج وطني مناسب . إذاً ، نحن امام فروق هامة بين واقع وظروف الانتفاضتين ، فروق موضوعية تجعل إيقاع الانتفاضة في الجزائر اسرع منها في السودان ، ومع ذلك ، ستمضي انتفاضة السودان إلي الأمام ، سيلتحق بها من عاكسته ظروف المعاش وشراسة الأمن والمليشيات ، ستلهمه أرواح الشهداء الذين اعطوا بسخاء والتحموا بتاريخ أمتهم إلي الأبد ؛ أن الشهادة في سبيل الوطن خير من الموت جوعاً وقهراً .. كوادر قوي الحرية والتغيير ستمضي بهمة أعلي في التعبئة والتنظيم ، لقيادة الشعب في مقاومة ميراث الثلاثين عاماً من الإذلال والمسكنة وستنتصر بارادة الشعب مهما كانت نفوذ الخارج ..