ثمّة مؤشرات تدلّ على دخول المنطقة في حقبة عنوانها تخفيف جزئي للاحتقان الديبلوماسي العسكري ريثما تمرّ الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل. فالرئيس باراك أوباما يريد ان تكون الأجواء صافية في سماء الشرق الأدنى في الصيف والخريف، كما لا يستسيغ إقحام بلاده في «حرب الآخرين»، وفي مقدمهم الحكومة الاسرائيلية، لئلا تؤثر في أولوياته التكتيكية. كذلك يرفض أوباما حتى الآن، على ما يبدو، تكرار تطبيق "نظرية القيادة من خلف الستارة" التي اتبعها على المسرح الليبي للتخلّص من العقيد معمر القذافي مع القيادة في إيران. ويعارض أيضاً التسبب في إغلاق مضيق هرمز لتداعياته على الاقتصاد الدولي عموماً والأميركي خصوصاً. واللافت هو طريقة تعاطي إدارته في هذه المرحلة بدرجة لافتة من البراغماتية لمحاولة تقطيع الوقت والدخول في مسارات تستوجب نفساً طويلاً للوصول إلى مخارج. فالدفع في هذا الاتجاه كان جلياً مُذ وقع "خلل فني" في أثناء اللقاء الذي عقده مع نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف، قبل نحو ثلاثة أسابيع على هامش مؤتمر سيول للأمن النووي. إذ سمع الصحافيون جزءاً من "الحديث الجانبي" الذي جرى بينهما، حيث أكد الرئيس الأميركي أنه يحتاج الى مزيد من الوقت لإيجاد حل لقضية "الدرع الصاروخية" ونزع فتيلها "بعد الانتخابات الأميركية حين يُصبح في وضع سياسي أفضل وأكثر مرونة". فيردّ ميدفيديف قائلاً: "أفهم رسالتك في شأن الوقت... سأنقل هذه المعلومات إلى فلاديمير...( بوتين)". هذا الحرص من نزيل "البيت الأبيض" على تهدئة الأجواء المشحونة التي تذكّر بأجواء "الحرب الباردة" على خلفية الخلاف المستجد إثر الإطاحة بالقذافي ومطالبة موسكو بتكليف لجنة أممية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها قوات حلف شمال الأطلسي هناك، فضلاً عن معركة لَي الذراع بين روسيا والصين من جهة والدول الغربية من جهة أخرى في ما يتعلق بالأزمة السورية، بالإضافة إلى تلويح إسرائيل بشنّ حرب ضد إيران ومواقعها النووية، هذا الحرص قد ترجمه بعبارات ذات مدلول كبير نائب مستشار الأمن القومي الاميركي بن رودس، إذ قال: "بما أنّ سنة 2012 هي سنة انتخابات في كلا البلدين وتشهد إجراء انتخابات وانتقال القيادة في روسيا وانتخابات في الولاياتالمتحدة، فمن الواضح أنها ليست سنة سنحقق فيها أي انفراجات". مضيفاً: "لذلك اتفق الرئيسان أوباما وميدفيديف على أنه من الأفضل إصدار تعليمات الى خبرائنا الفنيين للقيام بتعزيز فهمنا لمواقفنا، ما يتيح المجال لمواصلة المناقشات المتعلقة بالتعاون الدفاعي الصاروخي من الآن فصاعداً". هذا الكلام الصريح يبدو أنه لم يكن محصوراً بموضوع "الدرع الصاروخية" وأمكنة وجودها، بل تجاوزه ليشمل عدداً من الملفات الدولية الملتهبة، ومنها العلاقة مع إيران (اجتماع اسطنبول) والأزمة في سوريا (البيان الرئاسي في مجلس الأمن لدعم مهمة كوفي أنان). فمن الواضح أن عدداً من العواصمالغربية المعنية مباشرة بالملف النووي لم يُعِر اهتمامه لهذه "النقلة التكتيكية" في "البيت الأبيض"، فذهب بعيداً في رفع سقف شروطه عشيّة اجتماع اسطنبول لمجموعة الدول الست، وأكّد ديبلوماسيون أوروبيون معنيون بالملف أنهم سيجرون محادثات مع الجانب الإيراني "ومسدساتهم على الطاولة"، في إشارة إلى العقوبات وتلويح إسرائيل بضربة عسكرية لطهران. ولهذا "قطعوا الأمل" من احتمال تليين طهران مواقفها استجابة للمناخ المستجد. في هذا السياق، انتقد أحد الديبلوماسيين الأوروبيين الإدارة الأميركية على "قصر نظرها" لأنها "تسعى جاهدة الى تلافي ضربة إسرائيلية محتملة لإيران قبل الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني". هذا التسريب وصل إلى الأجهزة الأميركية، الأمر الذي دفع أوباما إلى الاتصال هاتفياً بعدد من المسؤولين الأوروبيين الكبار، ومن بينهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قبل ساعات قليلة من بدء جولتي المحادثات بين الدول الست والمفاوض الإيراني سعيد جليلي في اسطنبول السبت الماضي. ويبدو أن أوباما حاول إقناع ساركوزي بأهمية "الخطة التكتيكية التي تعتمد على سياسة الخطوة خطوة، والقيام بمبادرات حسن نية من الجانبين تؤدي إلى إعادة بناء الثقة"، وهي سياسة تتطابق مع الاقتراحات التي طرحتها موسكو في صيف 2011 وتتوافق مع ما طلبه أوباما من ميدفيديف في سيول قبل نحو اسبوعين. وكانت المفاجأة بالنسبة الى الوفد الأوروبي هي أنّ جليلي والوفد المرافق له لم يشيرا إلى الشروط المسبقة من رفع للعقوبات وغيرها. ويقرّ أحد المسؤولين الأوروبيين "أننا فتحنا قناة للحوار، لكننا لا نعرف ما سنضع فيها وبأي وتيرة، وهو أمر سيبحث فيه الخبراء خلال الأيام القليلة المقبلة لوضع جدول أعمال لاجتماع بغداد في 23 أيار المقبل". لكنه اعتبر أن "بغداد ليست مكاناً محايداً". وانتقد التصريحات المتفائلة جداً التي وصفت "أجواء الاجتماعين بالممتازة والإيجابية والمثمرة"، لكنّه أقر بأن "المناخ كان جليدياً، وأننا دخلنا في مسار لا نعرف متى ينتهي، ولهذا سندخل في بغداد في صلب الموضوع لأننا لا نريد مفاوضات للمفاوضات". وعكست هذا الجو الأميركي الجديد رسالة أوباما الموجّهة إلى جليلي قرأتها الممثلة الأميركية ويندي شرمان في أثناء الاجتماع الأول، حيث أكد فيها عدم نيّة واشنطن في قلب نظام الحكم في طهران، وان الخلاف بينهما ليس قدراً محتوماً. وعلى رغم رفض جليلي عقد لقاء ثنائي مع شرمان، إلّا أن أوساطاً متابعة أشارت إلى أن كلام الكرملين للبيت الأبيض واستعداد أوباما لإمرار هذه المرحلة الحساسة ونصائح موسكو وبكين لطهران ساهمت في ترطيب الأجواء المكفهرة في المنطقة.