رأيت أن ما كتبته يوم الأربعاء الماضي، تحت عنوان «بين إزاحة الشعبية والغاء الانفصال» يستحق المزيد من الاسترسال وتسليط الضوء، وذلك بعد ردود فعل كثيرة تراوحت بين استحسان البعض واستصعاب البعض للفكرة. فكرة استعادة الوحدة، التي قلت تبدو «خاطرة غريبة» أملتها التطورات الأخيرة في العلاقات الشمالية الجنوبية، خصوصاً بعد غزوة هجليج، وما سبقها من تعثر وحروبات امتدت من جنوب كردفان شرقاً بأتجاه النيل الأزرق وغرباً بأتجاه دارفور وتبلورت في شكل حلف تواضع عليه عدد من الفصائل المتمردة اتخذ اسم «الجبهة الثورية» التي اعتمدت الصراع المسلح سبيلاً لاقتلاع النظام. ü الفكرة تقوم أصلاً على اعتقاد قديم ترسخ لديّ، بأن السودان استقل موحداً وان أهله شمالاً وجنوباً، ونخبه السياسية في الاقليمين قد توافقوا منذ مؤتمر جوبا 1947م، ايام الاستعمار، وعندما طرح تقرير المصير عن دولتي الحكم الثنائي على وحدة البلاد. توافق بنى على أن مصالح الشمال والجنوب متداخلة ومتشابكة جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً ولا سبيل لاستغناء أي من شطري الوطن عن الآخر. هذا التداخل والتشابك هو ما جعل مصير البلاد مصيراً مشتركاً، وعليه استقلت البلاد موحدة، وعزز هذه الوحدة قرار منظمة الوحدة الأفريقية، وقبله الأممالمتحدة والمجتمع الدولي. فقد رأت المنظمة في أول قراراها بعد تشكيلها أن الدول الأفريقية يجب أن تحافظ على حدودها الموروثة من الاستعمار. لأن أي إعادة نظر أو تفكيك لتلك الحدود سينتهي الى تفتيت الدول الأفريقية واضعافها وفتح الطريق للتدخل الأجنبي والمصالح الاستعمارية في اشكال جديدة، وسيكون عاملاً من عوامل تجدد النزاعات الاقليمية في قارة تمور بتعدد الاثنيات والاعراق والثقافات. اتخذت المنظمة الأفريقية قرارها انطلاقاً من حقيقتين مهمتين: الأولى ان حق تقرير المصير ارتبط تاريخياً بالتحرر من الاستعمار في اعقاب الحرب العالمية الثانية، والثانية هي تكامل الموارد والمصالح كحقيقة واقعية أملتها المصالح الاستعمارية نفسها التي تقاسمت القارة وفي اعتبارها هذا التكامل والتشابك. ü الذين ارتضوا بفكرة تقرير المصير للجنوب، لم يكونوا غافلين أو يجهلون لتلك الحقائق، ولكن الإغراء والإغواء تمثل في ما لوحت به الدوائر الغربية «الاستعمارية» ذاتها من امكانية وقف الحرب التي استأنفت دورتها الثانية هناك وتطاولت لأكثر من عقدين من الزمان. ولأن فكرة الإنفصال فكرة مرفوضة في الأساس، فقد تم تغليفها «بسلفان» الوحدة الجاذبة، وقيل أن تقرير المصير لا يعني بالضرورة الانفصال، وان السودان سيمنح فترة انتقالية لمدة ست سنوات هي كافية لتعزيز خيار «الوحدة الطوعية»، بدل الوحدة القهرية المعتمدة على القوة. وكنا نرى عن قرب ومن خلال المناقشات التي نجريها كفاحاً مع النخبة الجنوبية المتنفذة في الحركة الشعبية - خصوصاً بعد الرحيل الغامض للدكتور جون قرنق صاحب فكرة السودان الجديد الموحد والديمقراطي والعادل - ان القوم يضمرون الانفصال ويفهمون تقرير المصير على ذلك النحو، وأكثر من ذلك يعتبرون انفصال الجنوب مقدمة لانهيار السودان الكبير.. وللمفارقة هذا ما حذر منه جون قرنق شخصياً أكثر من مرة بقوله «إن انفصال الجنوب يعني تفتيت السودان وانهياره قطعة إثر أخرى تماماً كما تنهار حجار الدمينو».. وهذا ما بدأنا نراه عياناً بياناً بعد ذهاب الجنوب بأشتعال الحروبات في دارفور، ومن ثم في جنوب كردفان والنيل الازرق حيث كانت فكرة «المشورة الشعبية» تلك المواد الغامضة التي أقحمت في اتفاقية نيفاشا مكملة لمبدأ «التفتيت».. فالمشورة الشعبية تقول بمنح المجالس التشريعية في الاقليمين حق «ابداء الرأي» فيما اذا كانت اتفاقية السلام كافية أو مرضية لشعوب المنطقتين، دون ان تضع سقفاً معلوم لحدود هذا «الرأي»، فلم يكن غريباً إذاً إذا سمعنا بعضهم - كمالك عقار مثلاً - يلوح بحق الاقليم في «الحكم الذاتي»، فهذا أيضاً «رأي» طالما لم يكن هناك تقييد لحدود هذا الرأي. ü هجليج، وبالرغم من أنها حسب الترتيبات التي اقرتها محكمة العدل الدولية جزء من الاراضي السودانية وليست ضمن مناطق النزاع الخمسة المعلومة، إلا أن الجنوب عينه عليها، كجزء من «صراع الموارد» الذي تحدث عنه د. غازي صلاح الدين في ورشة «التنوير المعرفي» الأخيرة حول السودان بعد الانفصال.. الفرص والتحديات.. فالجنوبيون يعتبرونها جزء لا يتجزأ من منطقة أبيي المتنازع عليها.. وفي هذا أذكر حواراً ليس للنشر دار بيني وبين القيادي في الحركة دينج ألور، الذي تبوأ حقيبة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية، وكان ذلك لدى عودة قادة الحركة في أعقاب اتفاقية أبيي، وتطرق الحديث لهجليج ضمن الحديث والخلافات الدائرة حول «بروتوكول أبيي» فقال دينج إن هجليج هذه حيث حقول البترول تقع على بعد 20 دقيقة سيراً على الاقدام من منزل وقرية «حبوبتي» في أبيي» ليدلل على أن كل منطقة أبيي جنوبية. وكنت قد طرحت عليه فكرة تحويل أبيي - كما كتبت هنا مراراً - الى منطقة تكامل تعزيزاً لمبدأ الوحدة، أو حتى حسن الجوار واتصال العلائق بين الشمال والجنوب أذا ما وقع الانفصال، ولم يكن هذا طبعاً في وارد تفكيره وهو من أشد المطالبين بتنفيذ البروتكول والحاق أبيي بالجنوب. ü هجليج اليوم، بأختصار، يمثل احتلالها فرصة لتصحيح الخطأ، الخطأ الاستراتيجي الذي قاد الى الانفصال، عوضاً عن «الوحدة الجاذبة» ذات الأولوية «الشكلية» في اتفاقية نيفاشا، خطأ لن تكون القوة العسكرية وحدها كافية لتصحيحه، وانما تكون القوة العسكرية مدخلاً لإجراءات أهم، أولها إلغاء الاتفاقية وفق منطق معلوم يقنع المجتمع الدولي، وقبل ذلك المنظمات الاقليمية، الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الاسلامي، منطق يقول إنه ثبت من خلال التجربة العملية الممتدة على مدى سبعة سنوات منذ توقيع الاتفاقية وخلال العامين الأخيرين منذ انفصال الجنوب أن الاتفاقية لم تجلب السلام بل اشعلت الحروب في أطراف الوطن وتهدد مصير الكيان السوداني بالانحلال والزوال. وإن على المجتمع الدولي الذي وقف وراء الاتفاقية ورعاها ان يوافق على تصحيح الخطأ، وإن تصحيح الخطأ لا يعني بحال التغول على حقوق شعبنا في الجنوب، بل للأخذ بيده من حالة التمزق والحروبات القبلية، والعمل على انتشاله من حالة التخلف الرهيبة وفق تمييز إيجابي يناسب الحالة، وفوق ذلك منحه حكماً ذاتياً يعبر عن هويته الخاصة ضمن السودان الموحد الذي تدار كل اقاليمه بحكم لا مركزي فيدرالي، من خلال عاصمة قومية موحدة، ونظام ديمقراطي حقيقي يرعى حقوق الانسان وحريته وكرامته، ü فالحديث عن ازاحة الحركة الشعبية واسقاطها بالقوة الخالصة، وليس ضمن مخطط مدروس لا يكفي، لأنك في هذه الحالة تحتاج لسند الشعب في الجنوب وتفهمه أن التغيير سيكون في صالحه وليس ضده. نعم قد يبدو تنفيذ الفكرة صعباً، ولكن عندما تنظر للبديل وهو استمرار الحروبات واحتمالات التفتيت والتمزيق وانهيار الكيان الوطني، فلا بد إنك ستسلم بأنها فكرة تستحق النظر وفرصة جديرة بالأعتبار.