تراكمت القرارات الدولية حتى فقدنا الاستشعار بخطورتها وهي ماضية في تفتيت الكيان المادي والمعنوي لهذا الشعب!! قراءة في القرار الأممي الأخير رقم «2046» الخاص بالصراع مع الجنوب، وهو برمته يصب في صالح دولة الجنوب. القرارات الأممية التي صدرت في حق السودان منذ التسعينات فاقت الثلاثين، كان أخطرها القرار «1593» والقرار «2046».. في الأول أحكموا الحبل على عنق السودان تماماً باكتمال حلقة الوصاية الدولية، والتي بلغت درجة مناقشة «حالة السودان» كل ثلاثة أشهر- أي مجلس وزراء دولي يدير شؤون البلد- في ذلك القرار أيضاً تم إلزام السودان بالجنائية الدولية، ولم يعد يجدي بعد هذا القرار الكلام عن أن السودان ليس من الدول الموقعة على اتفاقية روما، الإرادة الدولية ألزمته تحت البند السابع- «أي بالقوة» وكفى، ولا يجب أن ننسى أن الإدارة الدولية تعتبر الآن أقوى كيان مادي ومعنوي تنتج الأحداث على وجه الأرض، لا أحد يستطيع أن يقف ضدها عارياً، حتى إسرائيل لم تفكر في ذلك والآن إيران.. كل الذي يفعلونه هو تفجير هذه القرارات من الداخل بالالتفاف عليها أو تعطيلها قبل الصدور، استطاعت إسرائيل أخيراً بعد ثلاثين عاماً من العمل المجهد أن تتخلص من القرارات القديمة التي صدرت في حقها. ولا ندري كم ستأخذ أجيال السودان في المستقبل من الوقت والجهد للتخلص من القرارات «ذات البند السابع» التي تنزل علينا الآن بسهولة شديدة. ما يقوله الرئيس السوداني إن «الأممالمتحدة لا تستطيع أن تجبرنا» لم يسبقه عليه أحد من قبل، ولن يكون واقعياً كعشرات التصريحات التي لم تنجز، ولا يجب أن يبني عليه سياسات، ولكن من حسن الحظ استيقظت وزارة الخارجية أخيراً وأعلنت سأمها من «سمكرة» هذه الأعطاب الفجائية التي تحدثها مثل هذه المواقف!! وهناك مشكلة أخرى بدأت تطرأ على السطح، وهي أن عدوى التصريحات النارية بدأت تنتقل من «القصر» إلى البرلمان ورئيسه! كثرة انتشار هذا النمط من التصريحات النارية جعلت الإعلاميين في الفضائيات الخارجية، يسألون ضيوفنا: هل هذا الكلام من المواقف الإعلامية أم هناك مواقف أخرى حقيقية تحت الطاولة ؟!! ولأن التحقيق والمتابعة غير مسموح بها تتجدد الأخطاء بوتيرة غريبة. نتائج خطرة: أما الأخطر والمخيف أن هذه القرارات التي كثرت في خاصرة الوطن، لن يستطيع أحد انتزاعها قبل خمسين أو ستين سنة في أحسن الأحوال، فإسرائيل بإمكاناتها الهائلة وبالمساعدة الأمريكية وبانهيار الصف العربي في فترة «الهرولة العربية» أخذت ثلاثين سناً، فكيف سيكون الحال لدينا! إزالة آثار هذه القرارات التي تتساقط علينا بعبارات ثقيلة، تتطلب إرضاء أمزجة دولية لم تتلاق يوماً. إلغاء هذه القرارات يتطلب أن ترضى عنك الدول الخمس صاحبة الصوت الغليظ، وهذا مستحيل إلا بثمن لأبد أن تدفعه الأجيال، وهي حتماً ستظل مثقلة بأوزار أخرى.. إذا استطاعت أن تدفع ثمن العزلة الاقتصادية لن تتركها اللعنة المعنوية، كتلك التي تلاحق شعوب اليابان وسويسرا، فهم أغنياء متخمين، ولكن أمة ضيفة الكرامة!! مجروحة في كيانها المعنوي، باعتبارها تحت الوصاية الدولية. قرارات ليست في صالح المعارضة!! هذه القرارات بلغت حداً من السوء، بحيث أنها حتى المعارضة لن تستفيد منها، وخسائرها في المدى البعيد أكبر بكثير من فوائدها الآنية، في تضييق الخناق على الأنظمة المستبدة.. هذه القرارات قد تساعد في إزالة الأنظمة الدكتاتورية، ولكنها تبقي في عنق الشعوب بعد زوال الأزمة، والأنظمة الديمقراطية لا تملك سوى الاستجابة التامة للقرارات الدولية. تأملوا حال العراق، رغم أنها كادت أن تصبح ولاية أمريكية في الاذعان للسياسات الغربية إلا أنه سيظل مكبلاً بالقرارات التي أزاحت صدام حسين، ومنها قرارات تجعلها تحت رحمة الكويت! تأملوا أيضاً معي حال ليبيا، ستجدون أنها مكبلة بلقمة العيش، وستستمر تجميد الأرصدة الى أزمان طويلة، ومطلوب منها وهي دولة في حالة تكوين سلوك أنبياء في حقوق الإنسان، أما الأسباب الفعلية هي أن هناك مؤسسات ضاغطة مستفيدة من هذه المليارات ولن تتركها بهذه السهولة وستلعب على موازنات مجلس الأمن. *** هذه المحاذير تجعلنا نقرأ الوضع في سوريا بطريقة ربما مختلفة. واضح أن الروس قد ولغوا في دم السوريين الى حد بعيد بمساندتهم لنظام مستبد، وأن البندقية شبعت من دماء الشعب السوري، وقد بلغت المأساة حد أن يهلل العالم متفائلاً بمقتل أربعين شخصاً بدلاً عن مئة. إلى هذا الحد بلغت الأزمة، ولكن تأكدوا أن عدم وجود قرارات أممية سيكون في صالح الشعب السوري على المدى البعيد.. النظام زائل ولا شك فيه، وسيقال يوماً أن شهداء اليوم انقذوا الأجيال من قيود القرارات الدولية، حتماً أطفال سوريا سيكونون أوفر حظاً من أطفال العراق وليبيا والسودان!!. كيف نخفف!! السؤال الذي لا يجب أن نهرب منه في السودان هو: كيف نخفف على هذه الأجيال التي ما زالت في أصلابنا أو أحضاننا؟ ها نحن رحلنا إليهم ديون صناديق الخليج، ولكن كيف سيكون أمرهم في المحافل الدولية آنذاك؟ نفوسنا تتوق للتحدي، ولا غبار على هذا الموقف أن أعددنا له، ولكن المصيبة أننا نعاني من سوء تقدير النتائج.. والسبب تربوي ثقافي، أزمة قديمة في صميم تكويننا الثقافي، سببها كثرة تعاطي المواقف العاطفية. وجدانياتنا غير قابلة للفحص والامتحان، لهذا لا نفرز بين أحلامنا والحقائق على الأرض، وهكذا أيضاً الصحف لدينا تنقل الأخبار طبقاً للصورة الباقية في أحلامنا، ثم نصحو بعد فوات الأوان، لنعود للهرب.. عندما نصطدم بالواقع نقفز إلى الأمام بمزيد من التحدي لنكرر الخطأ أو نهرب بالكذب على الذات والآخرين.. ربما القفز الى الأمام، ممكن في قائد لديه قابلية «للاستشهاد» ولكن هل يستقيم أن يدفن معه هذا الكم الهائل من الأجيال؟ أجيال قد لا ترى مانرى حياً، مفاهيم للسيادة والوطنية بدأت الآن تتغير، حتماً لن ترى هذه الأجيال بأساً في أن تنحني أمام المجتمع الدولي إذا اجتمعوا عليهم، لم تتورع دولة بحجم فرنسا ونيجيريا في أن تتراجع أمام «الفيفا» وهو تجمع دولي رياضي، لم يقولوا إن الاستجابة تتنافى مع السيادة. *** لكي لا تُظلم الأجيال بقانون دولي، علينا أن نتعامل بعقلانية وجدية لمجابهة الخطر قبل أن يقع، والخطر هو مجرد صدور قانون، انتظار ساذج لتعاطف صيني أو روسي أو زيارة روسيا قبل القرار بيوم أو يومين لن يجدي ولن يفيد، وهذا بالفعل ما حدث في كل القرارات، دولة الصين في السودان في حقيقة أمرها أخبث من أمريكا، لن تسمح مثلاً أن يتم القبض على رمز الدولة لكي لا تنهار مصالحها، ولكن يهمها أن تكون القرارات الدولية مسلطة على السودان، فهذه واحدة من آليات المحافظة على الاستثمارات، وهي الآن تغلغلت واطمأنت تماماً على مصالحها الاقتصادية، ولم تعد تكترث بالشمال أو الجنوب، ورطت الجنوبيين بمليارات هم في أمس الحاجة إليها، وهى تعلم أنها تدفع من «دقنو وفتلو»- أي يعطيهم من مواردهم، والجنوبيون في أمس الحاجة الى مساعدات اقتصادية، بعد الحماقة الكبرى التي ارتكبوها مع الشمال. أما السودان الشمالي فقد وضحت تماماً مواقفها منه، فقد تم تمرير هذا الكم الهائل من القرارات تحت البند السابع على مرآى ومسمع من المندوب الصيني، وللحقيقة يجب أن نعترف طبقاً لموجهات الحكمة القائلة «إذا أردت أن تطاع فأطلب المستطاع». إن التبرير المنطقي العقلاني سلوك مقدس في المجتمع الدولي، لا يتخطاه إلا من تورط في مأزق مثل ذلك الانهيار المعنوي، الذي يتجرعه الأمريكان دائماً في مساندتهم لإسرائيل! وعلى ذلك يمكن أن نزيد.. أن المصالح الصينية مع السودان لا تتعدى 11% من دخلها القومي، في حين أنهم مع الأمريكان في حدود 44% .سوء تقدير النتائج، ونزوع رئيس الدولة الى التحدي يضعفان من جدية الحكومة في التعامل مع القرارات الدولية، وفي هذا الحال لا يجب أن تلام المجموعات المساندة كالأفريقية والعربية. في هذه الأجواء الخالية يجد من يحبكون القرارات ضد الحكومة السودانية فرصة واسعة جداً في بث السموم في أماكن لا يصلها دواء فيما بعد.. لهذا لم يأت قرار لصالح السودان وقد تجاوزت القرارات الآن حكومة «الإنقاذ» الى تكبيل الأجيال القادمة.