تطرقنا في الحلقة الماضية- في معرض حديثنا عن نظام جلسات البرلمان وضوابطها- إلى صلاحيات الرئيس في إدارة الجلسة، وضبطها وحفظ النظام داخل القاعة وفي حرم المجلس. ومما يدخل في اختصاص الرئيس في هذا الشأن، توزيع وترتيب فرص الحديث في الموضوعات المطروحة، وهي مهمة ليست بالسهلة أو الهينة. وفي الحقيقة فإن مسألة تحديد من يتحدث ومتى يتحدث، كانت وما زالت واحدة من أصعب وأشق التحديات التي تواجه رئاسة البرلمان، والتي تلقي دوماً بظلالها السالبة داخل القاعة، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى تبرم الأعضاء وسخطهم، بل وفي سوابق لا تحصى، إلى ثورتهم وهياجهم متى ما أحسوا بأن هناك حيفاً أو ظلماً حاق بهم جراء الطريقة التي توزع بها المنصة فرص الحديث. أصل المشكلة يكمن في عدم التناسب بين حجم العضوية، وهو مئات الأعضاء في المتوسط، وبين الوقت المحدد والمتاح لمناقشة الموضوعات المدرجة في جدول الأعمال. وتتفاقم المشكلة عندما يكون البند المدرج ذا أهمية خاصة أو حيوية أو حساسية قومية، أو عامة. في هذه الحالة تزداد الرغبة في الحديث مِن قِبل الأعضاء، حرصاً على الإدلاء بدلوهم في الأمر، ولتسجيل المواقف إزاء صانعي القرار في الدولة، وربما لإبراء ذمة النائب البرلماني تجاه الرأي العام السوداني عامة أو وناخبيه ومواطنيه خاصة. ولتقريب الصورة، وتحديد جوانب المشكلة المتعلقة بعدالة توزيع فرص الحديث، دعنا نفترض أن عدد النواب الحاضرين في جلسة ما، كان مائة وخمسين عضواً، وإن أربعين منهم طلبوا الإذن بالكلام في الموضوع المطروح، فلو سمح لجميع هؤلاء النواب بالمشاركة ولو في حدود عشر دقائق فقط، لاحتجنا إلى أربعمائة دقيقة أي حوالي ست ساعات لهذا البند فقط، وقد تكون معه بنود أخرى في جدول الأعمال. فكيف إذن يقسم هذا الزمن القصير على ذلك العدد الكبير من الأعضاء ممن أبدوا رغبتهم في الكلام؟ صحيح أن اللائحة والعرف البرلماني أعطيا رئيس الجلسة السلطة التقديرية في تحديد من يتحدث، لكن هذه الصلاحية التقديرية شأنها شأن أية سلطة تقديرية في العمل العام، ليست مطلقة، ولا يتعين أن تمارس بصورة جذافية أو عشوائية أو مزاجية، بل المفترض أن تستخدم بموضوعية وحسن نية ولمصلحة التداول، كما أن الرئيس مقيد بمراعاة اعتبارات أخرى نصت عليها اللائحة. فوفق اللائحة يتمتع رؤساء الكتل البرلمانية بميزة ابتدار النقاش في الموضوعات المطروحة، وهو تمييز مبرر ومعقول، لأن هؤلاء القادة البرلمانيين لا يعبرون عن ذواتهم فقط لكنهم يمثلون التيارات الرئيسة داخل المجلس، وفي ابتدارهم للحديث مجال لتوضيح موقف الكتلة التي ينوبون عنها تجاه القضية المعروضة، ويلي رؤساء الكتل رؤساء اللحان ذات العلاقة بالمسألة قيد النظر، كما إن هناك الوزراء المختصين الذين يعكسون وجهة النظر الرسمية والتنفيذية، ويملكون المعلومات والبيانات الضرورية التي يتوجب استصحابها والبناء عليها عند التداول واتخاذ القرار. بعد فراغ هذه الشرائح من الحديث، يفترض في الرئيس أن يوزع ما تبقى من زمن بين بقية الأعضاء، على أن يراعى في ذلك الموازنة بين المؤيدين والمعارضين. فإذا تذكرنا أيضاً، أن للمجلس قادة مثل نواب الرئيس ورؤساء اللجان، جرى العرف على إعطائهم الأولوية إحتراماً لمواقعهم الصدارية، يتضح لنا أن المساحة التي بقيت أمام الرئيس قد ضاقت كثيراً، وأنه سيكون في موقف حرج عند المفاضلة بين عضو وآخر، فأية معايير يلتزم، وبأية مقاييس يهتدي؟ في هذه الحالة يبرز اعتباران أساسيان للمفاضلة والتقديم والتأخير، هما العدالة ومصلحة التداول، وللأسف ففي كثير من الأحيان يتقاطعان. العدالة توجب أن يكون الحديث دولة بين الأعضاء، وأن تكون الأولوية لمن لم يتحدثوا من قبل أو تحدثوا قليلاً، أما مصلحة التداول فتفترض أن تمنح الفرصة للشخص المتخصص أو المعني أو المفيد، كالخبراء والعلماء وأصحاب الباع الطويل في الأمر، كان ذلك مسألة إقتصادية أو عسكرية أو علمية أو إستراتيجية. قد يكون الحل الأمثل هو التوفيق بين المعيارين، والممازجة بينهما، لكن هذا الحل لا يتوافر دائماً ويعتمد أيضاً على العدد الراغب في الحديث من الشريحتين. كما أن من الخيارات المتبعة لاتاحة أكبر قدر من المشاركة وضع قيد زمني، لكل متحدث، وقد يكون دقائق معدودة، وعيب هذا الإجراء أنه يبتسر النقاش ويخل بموضوعية وكفاية المشاركة. ومما يصعب من الأمر ميل الكثيرين من النواب على مدى التجربة البرلمانية السودانية كلها، للإطناب والغوص في التفاصيل، على حساب وقت البرلمان الثمين. ومن النوادر التي أذكرها، أنه وفي جلسة لمجلس الشعب ترأسها رئيس المجلس الراحل الرشيد الطاهر، أطال أحد الأعضاء في الحديث ودخل في جزئيات وتفاصيل، فضاق به ذرعاً عضو آخر واثار نقطة نظام مفادها أن العضو المتحدث قد أسهب وأطال، رد عليه السيد الرئيس وكان رجل ذا دعابة، ومن المعجبين بقدرات المتحدث البلاغية، أن العضو قد أسهب فعلاً، لكنه اسهاب مفيد وفيه إثراء للأدب البرلماني ومصلحة الأمة. في مناسبة أخرى، تجاوز أحد قادة المجلس الزمن المحدد اضعافاً، فأراد الرئيس أن يوقفه، لولا قصاصة صغيرة وصلته من أحد ظرفاء المجلس، جاء فيها التماس للرئيس «وكان السيد محمد الأمين خليفة» بأن يصبر على المتحدث لأنه رجل طاعن في السن وأربى على السبعين من العمر، وبالتالي لم يتبق له من شهوات الدنيا ومتعتها سوى شهوة الكلام فهلا تركتموه يرحمكم الله؟!