منذ ان وقع الانفصال، حال التفاوض بين الجنوب والشمال هو الحال، يلبسون احسن ما حوته خزانات ملابسهم، يجرون وراءهم حقائبهم الحديثة ذات الايدي القابلة للجمع والطرح، يتجهون الى المطار، ليهبطوا بعد ساعات قليلة في افخم فنادق تلك العاصمة التي يتضور اهلها جوعاً وبرداً. يجلسون الايام والليالي ذات العدد، يبدأون من حيث انتهوا، ولينتهوا ايضاً الى حيث انتهوا في الجولة السابقة. قضايا البحث، والبحث الاضافي تحمل ذات العناوين ذات الملامح والشبه، يجملها كلها عنوان كبير مكتوب على ظهر الملف: «قضايا ما بعد الانفصال». واغرب ما في هذه القضايا انها كثيراً ما تتفجر على الارض، نيراناً ودماءً ودموعاً، لكن عند تصويب النظر اعلى الهضبة الاثيوبية تجد المتفاوضين في غاية الطمأنينة والهدوء يستمتعون ب«البنَّة» الحبشية التي تعدها سيدة سبأية سمهرية القوام في كامل اناقتها الفولكلورية التي تناسب اذواق وامزجة نزلاء «الخمسة نجوم»، ان لم يكن بعضهم فضل اللجوء الى حمام السباحة الدافيء والعزلة المجيدة لسويعات يطالع فيها بعض الروايات السياسية او البوليسية او اخر تحليلات سياسية في مجلة اجنبية حول ما يفعلونه في اديس ابابا او ما هو متوقع او غير متوقع انجازه من جانبهم في وقت منظور، مطالعة لا يقطعها الا رنين الهاتف العابر للمحيطات او الصاعد من السهول السودانية الى اعلى الهضاب الاثيوبية في اديس او بحر دار. ü الغريب انه في المرات القليلة التي تمكن هؤلاء الزوار الدائمون لاديس ابابا او بحر دار على شواطيء «تانا» اكثر بحيرات العالم دفقاً وعطاء -شكل النيل الازرق بجلالة قدره- في المرات القليلة التي اثمرت فيها مفاوضاتهم اتفاقاً، نجد ان هناك من يقف له بالمرصاد في الخرطوم او جوبا لنسفه، كما حدث مع اتفاق 28 يونيو 2011 المعروف اختصاراً ب«نافع-عقار»، وكما حدث بعد ذلك الذي عرف ب«اتفاق الحريات الاربع». الاول نسف بقرار من حزب الرجل الذي وقعه والذي يحتل فيه موقع نائب الرئيس، والثاني من جانب السيد سلفا كير الذي خرج الى الناس شاهراً سيف احتلال هجليج الذي اجبر على اعادته الى غمده ملوماً محسوراً. ü قصدنا من تشكيل هذه الصورة الدرامية، وضع الناس في اجواء التفاوض الشمالي-الجنوبي بعد الانفصال، وهي اجواء برغم ما يبدو عليها من جدية وصرامة وحدة في التعبير احياناً، لكنها في عمقها لا تخلو من جرثومة عبثية تنخر في اوصالها، جرثومة توارثت عبثيتها من «عبثية الانفصال» نفسه كخيار عبثي ومدمر، فبعد الانفصال فان كل تبعاته وقضاياه تتمتع بقدر عالٍ من «القدرية العابثة» بحيث يصبح كل شيء مقبولاً وليس مقبولاً في آن معاً، مقبولاً نظرياً اذا ما عاد الناس لحقيقة ان وطنهم واحد وان الهم اله واحد وان تاريخهم وجغرافيتهم مشتركة -متداخلة ومتكاملة- وبالتالي لا معنى للمحاصصة وكل شيء مقبول ويهون في سبيل الوطن الواحد لكن ذات القضايا، حدوداً او نفطاً او امناً، تصبح في لحظة واحدة مشكلة تدعو للخلاف و«تماسك الحزز» عندما يفكر كل طرف في المحاصصة بمنطق «حقَّي وحقَّك.. حدِّي وحدَك». ü مع ذلك فاخبار اديس ابابا حملت بعض الجديد، وكان لابد لوفود «الاخوة الاعداء» ان يخرجو «بشيء» هذه المرة -اي شيء- ليس رغبة ولكن لرهبة «ذات ثلاث شعب»: رهبة دولية يمليها الجدول الزمني والمهلة التي يمنحها القرار الدولي (2026) - الثاني من اغسطس الحالي- كاخر موعد للوصول الى حل للمشكلةالعالقة بين شطري الوطن المنقسم والا العقوبات تحت المادة (41) من الفصل السابع من الميثاق الدولي. ورهبة اخرى اقليمية، فالاتحاد الافريقي قد بلغ لديه السيل الزبى من تطاول التفاوض ومن الصرف على امبيكي ولجنته ومن الاستضافة الدائمة لجولات تفاوض لا تنتهي الا لتتجدد، واهم من ذلك حالة الاحباط التي قادته للدفع بالملف الى مجلس الامن باعتباره من مهددات الامن والسلم الدوليين في القارة. ثم رهبة ثالثة محلية، فالاوضاع الاقتصادية والامنية والاجتماعية في اقليمي السودان - الشمالي والجنوبي- تنذر بشرور مستطيرة مع تصاعد حدة الفقر والغلاء الذي يدفع بالناس الى الشوارع مسترخصين ارواحهم في مواجهة الواقع المزري الذي يعيشونه، والتذمر الجهوي والقبلي جراء الاحساس بالتهميش الذي يحمل الناس على حمل السلاح في مواجهة الدولة. ü كل ذلك بالاضافة الى الضغوط اليومية المستمرة، خصوصاً من جانب الولاياتالمتحدة وبعض دول الاتحاد الاوروبي، مع احتمال عدم تمديد المهلة من قبل مجلس الامن اذا ما لم يتم التوصل الى شيء مقنع يوحي بأن هناك املاً يرتجى من هذا التمديد، كل ذلك مُجتمعاً دفع الطرفان الى «الايحاء» وليس «الاعلان الرسمي» بأن اتفاقاً قد تم بين وفدي السودان وجنوب السودان على رسوم عبور ومعالجة النفط الجنوبي عبر الانبوب والاراضي الشمالية حدد له مبلغ 25 دولاراً و80 سنتاً لبرميل النفط حتى ميناء التصدير، وقيل ان ذلك تم بعد اجتماع اخير مطول بين رئيس لجنة الوساطة ثابو امبيكي ورئيس وفد الخرطوم ادريس محمد عبد القادر ورئيس وفد جوبا باقان اموم. وقال عوض عبد الفتاح من خلال وكالة انباء محلية سودانية تعتمد على خدمة الهاتف «كومون» انهم قد توصلوا لاتفاق نهائي مع دولة الجنوب بشأن عبور النفط ونتوقع انفراجاً في ملفات التفاوض الاخرى. وهو تصريح يوحي -اذا ما صح- بتغيير تكتيك وربما استراتيجية التفاوض الشمالية التي كانت تؤكد دائماً ان الاولوية هي «لحل القضايا الامنية» حتى تصبح بقية الملفات سالكة. يترافق هذا ايضاً مع اعلان غامض تناقلته بعض الصحف السودانية عن اتفاق بين الحكومة وممثلي الحركة الشعبية «قطاع الشمال» على وقف جزئي لاطلاق النار لمنح فرصة لتمرير المساعدات الانسانية، واهمية ذلك الاتفاق انه يفتح «كوة» تم اغلاقها في وقت سابق من جانب الحكومة استجابة لدعوات «صقور» المتطرفين او «غُربانهم» الناعقة «بحرمة» التفاوض مع «قطاع الشمال» لاسباب فصلوها ولا تقنع سواهم وبعض اطراف الحكومة عندما «ترخي اضنيها». ü جرى ذلك كله، في تزامن مدهش بين زيارة السيدة كيلنتون وزير الخارجية الامريكيةلجوبا للمرة الاولى وانقضاء اجل مهلة الثلاثة شهور التي منحها القرار الدولي (2026) وتعثر المفاوضات الجارية في اديس ابابا. نصيحة كلينتون من جوبا كانت هي: «يجب على البلدين التوصل الى اتفاق بشأن النفط كخطوة اولى نحو انهاء العداء. ونحن الان بحاجة الى جعل هذه الموارد «النفطية» تتدفق مجدداً، «فنسبة من شيء ما، افضل من نسبة من لا شيء» وزادت وبالرغم من ان جنوب السودان والسودان اصبحا دولتين منفصلتين، فان «ثرواتهما ومستقبلهما لا يزال مرتبطتين بصورة لا تنفصم». هكذا تحدثت كلينتون واعترفت من جوبا بحقيقة الوحدة الطبيعية والازلية بين شطري البلاد شمالاً وجنوباً وتداخل وتكامل ثرواتهما، ومع ذلك عملت بلادها في عهدها بالخارجية وعهد زوجها في الرئاسة على تفتيت وحدة البلاد وتقسيمها، بل اغرت حكومة الخرطوم بتطبيع العلاقات ورفع العقوبات وشطب اسم السودان من الدول الراعية للارهاب اذا استجابت لداعي الانفصال. لكن كما قال المبعوث برينستون ليمان اخيراً فإن الخرطوم «تتهم واشنطن دائماً بالقيام بتحريك قوائم المرمى» حتى تتجنب ولوج الاهداف» المتفق عليها واحراز تقدم، لكن المبعوث وواشنطن لهما من الحجج والاتهامات المضادة التي تصور الخرطوم هي من يقوم «بتحريك قوائم المرمى» في كل مرة.. ما علينا، فشيء خيراً من لا شيء ودعونا ننتظر، واصلوا الباقي باقي!