بالإتفاقية نعني تلك التي أبرمت يوم 28/9/2012م في اديس أبابا بين دولتي السودان. أما «أم فريحانة» فهو مصطلح شعبى «لحالة» نفسية إذا إنتابت إنساناً تتركه في حاله فرح دائمة لا مبرر لها !! في غرب السودان يصفون به «هستريا راقصة». يمكن ان نقول أن خلاصة الإتفاقية هي أن ثابو أمبيكي الرئيس السابق لجنوب أفريقيا إستطاع أن يوفر للسودان «600» مليون دولار سنوياً وأن يخرج حكومة «الإنقاذ» من مأزق القرار 2046 الأممية، ولكن مقابل تنازلات شملت السماح بعودة «الجنوبيين» إلى شوارع الخرطوم قبل معالجة القضايا الأمنية والتنازل عن قطعة كبيرة من الأرض التي تم سحب السيادة منها . وهناك تنازلات أخرى، وهي الأخطر لأن المشكلة الأصلية كما هي، وهناك مسارات أخري يفرضها القرار الأممي! إذن الأفراح التي إنطلقت في إستقبال الوفد لم يكن لها ما يبررها إلا إذا كان فرح الناجي من مأزق !! وهناك فرقاً بين أفراح «حل المشكلة» وفرح الناجي من مأزق، التعبير الصارخ لفرحة الناجي من مأزق ليس كريماً للشعوب التي تعتز بنفسها ونحن في السودان ما زلنا نحمل شيئاً من هذا الكبرياء!! الإنتصار الحقيقي في هذه المرحلة هو السؤال عن السبب الحقيقي الذي دفع السودان في أحضان مشكلة جديدة أكثر خطورة من المشكلة القديمة وهي مأزق القرار «2046» وقد شرحنا هذا القرار من قبل في عنوان سابق. هذه الإتفاقية حتى الأن شملت إتفاقيات إذا جمعناها يمكن أن نجملها في مجموعتين : أمنية واقتصادية بإعتبار أن العلاقات الإجتماعية تدخل ضمن الفوائد الاقتصادية. أما نصوص الإتفاقية أغلبها من إتفاقيات قديمة كلها تدخل تحت عنوان «تجديد الإلتزام» . وهناك نصوص قضايا عامة لم يكن مختلف عليها أو كانت لا تحتاج إلى وساطة كأمور المصارف وتجارة الحدود ، والمعاشات. أما المجموعة الأمنية من النصوص هي الخطرة والمهمة، وهي القضية الأساسية في الإتفاقية . نصوصها جديدة وهي في أغلبها «تنازلات شمالية».كان يمكن القول أن الإلتزام في هذه الإتفاقية ربما أكتسب شيئاً من الجدية حتى هذا الإحتمال لا يجب أن نركن إليه لعدة أسباب أن الفريقين جلسا تحت التهديد ولكون النصوص نفسها غامضة ومفرغة من الداخل ، ونضرب مثلاً : البند الأول من الإتفاقية الأمنية يطالب بالإنسحاب الفورى دون شروط (من الجانب الآخر للحدود) ولكن أين هذه الحدود المشار إليها وللدولتين مفهومين مختلفين على الأقل في أكثر من خمس مناطق حدودية منها «الميل14». الترتيبات الأمنية هي أخطر الإتفاقيات . الصورة الحقيقية لهذا الإتفاق مختزلة فيها، وأخطر بنودها هو البند الثالث . وفيه تراجع واضح من قبل حكومة الشمال في قبول «خريطة أمبيكي» التي صارعوا دون جدوى لتعديلها وللحق : أن التراجع عن سقف المطالب أحياناً ليس تنازلاً بل من طبيعة التفاوض، ولكن قبول التنازل في مجال السيادة وإنكار المواقف السابقة مؤشراً واضحاً للتقهقر. وهناك لستة طويلة من مواقف قبلوا بها بعد رفضٍ قاطع، مثل إتفاقية يونيو 2011م «نافع - عقار» والأغرب من كل هذا أنهم في بند الترتيبات الأمنية، أمعنوا في قفل الطريق على «الخرطوم» بمثل قولهم: «دون إضافة إجراءات خاصة بمنطقة (الميل14) ورغم أن المفاوض الجنوبي لم يكن في حاجةٍ إلى هذا «التوضيح المذل» للشمال إلا أنهم سجلوه على أية حالٍ. هذا البند هو هدية أمبيكي للجنوب! وفيه إقرار بمنطقة منزوعة وتبقي القوات « بكل قواعدها الحالية». هذه المنطقة المنزوعة التي ستبقي على شكل دويلة محايدة بالتقريب في مساحة 45 ألف كيلومتراً مربعاً: ستبقي بيئة صالحة لمشروع إنفصالي جديد في جنوبي السودان الحالي . ستبدأ بمعسكرات لاجئين ، قوات دولية ، مأوى تمرد، .. هذه الدويلة ستفرخ دولاً جديدةً ستبدأ بمطالب حكم ذاتي بعد تبني القرار 2046 حماية الحركة الشعبية قطاع الشمال ، ولم نسمع بحكم ذاتي لم ينته باستقلال . ولا ننسى أن قوات «عرمان عقار» ستبقى في هذا المكان وكان من السهل تصفيتها كما حدث مع قوات عقار، ولكن بعد القرار الأممي ستكون لها شوكة لابد من تفاديها باتفاقية جديدة.كل هذا مع الإفتراض أن الجنوبيين سينسحبون طبقاً لهذه الأتفاقية.. وفي شيطان التفاصيل هذا الإحتمال ضعيف الوقوع لأن المنطقة نفسها مختلف عليها في ترسيم الحدود. حتى ولو إفترضنا أن الجنوبيين إنسحبوا وأن هناك إتفاقاً تم مع قطاع الشمال منطقة (الميل14) هذه ، ستبدأ مشكلة جديدة أشبه بأبيي الأولى . هذه المرة ستكون الأزمة بين الرزيقات ودينكا ملوال. لأن الإتفاقيات تنص على الإدارة القبلية للمنطقة المنزوعة. إذن إنسحاب الجنوبيين من المناطق المحتلة لن يفيد كثيراً لأن الجيش السوداني أيضاً سينسحب ويستطيع الجنوبيون أن يتركوا «قطاع الشمال» بعد أن أمنوا لها واقعاً قانونياً سياسياً هذا الإنسحاب لا يبرر هذا الفرح. إذن الإحتجاج بهاتين النتيجتين لن يفيد أنصار الإتفاقية الفرحين. ومن غرائب خداع النفس أن هناك أصوات في حزب الحكومة تحاول أن تقنع المتشككين بالترويج ان هناك أصوات رافضة في الجنوب . نعم هناك أصوات والسبب أنهم هناك نسبياً اكثر حرية واكثر ثقافة بالمشكلة، وليس كما عند القبائل لدينا احتجاج دينكا ملوال أشبه باحتجاج المستوطنين اليهود في فلسطين على حدود اتفاقية أوسلو!! ليس لأنهم مظلومين بل لأن طموحهم لا حدَّ له، وهذا هو الفرق. نواصل في الحلقة القادمة حول أسباب ضعف المفاوض الشمالي ولماذا نتائج الإتفاقيات تصب لصالح الجنوبيين .. كيف يروي الأقلام الموالية لبنود الإتفاق؟!