للمرة الثانية أو الثالثة يتجاسر المجلس الوطني على أحكام الله سبحانه وتعالى، ويتولى مهمة التشريع فيما مضى فيه القول القطعي بالتحريم، دون اعتبار لضرورة ملجئة لا في النفس ولا في الجماعة. والمجلس الوطني قبل أن يتجاسر كل هذا التجاسر على أحكام الشريعة ويطوعها لرؤيته المتقاصرة عن الفهم الكلي والشامل لموضوع الربا، كان حريّاً به أن يكلّف بعضاً من أعضائه، أو من غير أعضائه، أن يعكف على دراسة متانيّة فقهيّة علميّة محكمة في تعريف الضرورات التي تجيز أكل الربا. إن المتتبع للنصوص التي وردت في فقه الضرورة يلاحظ أول ما يلاحظ أنها جاءت في ضرورات تتعلّق بالنفس.. والقرآن خير شاهد: قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌرحيم) والمخمصة هي الجوع الذي قد يؤدّي إلى هلاك النفس و(غير متجانف) عبارة ضابطة لقدر الضرورة، وقدر التناول الذي يسد الرمق وعبارة(فإن الله غفور رحيم) جاءت لتُرِي ولتدلّّّ على أن النفس، رغم كل ذلك، ربما لابسها بعض التوسع أو الاجتهاد مع الخطأ، فجاء التعقيب بالمغفرة والرحمة، ليوقف هذا التوسع قدر الإمكان وقال تعالى :( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). الموضوع أيضاً مرتبط بهلاك النفس وبوارها بواراً حقيقياً، وجاءت التعقيبات أيضاً للضبط وعدم التوسع والتجاوزات (غير باغ ولا عاد) و(غفور رحيم) لذلك عرّف الفقهاء الضرورة بأنها المتعلقة بهلاك النفس أو الضرر على بعض الأعضاء بترك الأكل.. هكذا قال الحصاص وهكذا قال الشيخ الدردير وهكذا قال السيوطي. وفرّق العلماء بين الضرورة والحاجة.. فالضرورة هي التي تؤدّي إلى هلاك النفس هلاكاً حقيقياً أو فقدان بعض الحواس. أما الحاجة فهي التي تصيب الإنسان بالمشقة دون الهلاك، وعلى هذا فالحاجة لا تبيح أكل الميتة ولا أكل الخنزير ولا شرب الخمر. هذا بالرغم من أن النص ورد في إباحة الأول والثاني للضرورة. وعلى هذا فلا يباح للحاجة قطعاً وقولاً واحداً ما لم يرد نص في إباحته للضرورة مثل الربا والصيد للمحرم (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا). أما الحديث عن الحاجي العام الذي ينزل منزلة الضرورة كما قال بعض المعاصرين وأنه الذي يشترك الناس جميعاً في ضرره وضرر فقده وتعم به البلوى. فهو أيضاً لا ينزل منزلة الضرورة إلا إذا أدى فقده إلى هلاك بعض الناس لا جميعهم فيجوز إذاً إنزاله منزلة الضرورة لهؤلاء، ويشاركهم الآخرون الذين لم تبلغ بهم الضرورة حالة الهلاك، هذا هو الحاجي العام لا أرى غيره لأن لو أن أهل قرية وجدوا مشقة في الوصول إلى ماء الشرب ولكنها مشقة مهما بلغت لا تؤدي بهم إلى الهلاك فتنزل منزلة الحاجي العام، الذي لا يبيح الربا بل إن الذي يبيح الربا هو الذي يؤدي إلى هلاك النفس هلاكاً حقيقياً أو هلاك بعض حواسها. لذلك أقول وفوق كل ذي علم عليم إن قروض حكومة السودان للسدود ولكهرباء الشرق وغيرها تدخل في باب الحاجة ولا تدخل في باب الضرورة، والسبب في ذلك واضح لكل ذي عينين ولكل ذي نفس توابة أوابة. وهو أنه ما بين إجازة القرض من المجلس الوطني ثم الا تفاق عليه مع دولة الكويت المانحة (أوالجهة الكويتية) ثم إتمام إجراءات الاتفاق واستلام القرض وإنشاء شبكة الكهرباء وتوصيلها إلى الناس.. بعد كل هذه الإجراءات لابد أن تمر سنة أو سنتان أو ثلاث قبل استفادة المواطن من الكهرباء.. فما دام أن المواطن يستطيع أن يحتمل أو أن الحكومة تستطيع أن تدبر له أمره فإن الأمر كله يدخل في باب الحاجة أو الحاجي العام ولا يدخل في باب الضرورة بأي حال من الأحوال. وقد اشترطوا أن تكون الضرورة واقعة لا محتملة، ولا متوقعة على النفس دون غيرها من الكليات الخمس وإن كان البعض أدخل الكليات الخمس في الضرورة. واشترطوا أيضاً عدم وجود سبيل آخر لسد الضرورة وهو هنا خلو ميزانية الحكومة تماماً من المال وعدم قدرتها على إيجاده من مصادرها المنقولة أو الثابتة. وقد أحل الإمام أحمد المسألة لمن لم يجد ما يأكله وحرم عليه الميتة.. وهذا فقه يوزن بالذهب، ومثله ما قاله الإمام مالك إذ أجاز للمحرم أكل الميتة عند الضرورة، ولم يجز له لحم الصيد، لأن الضرورة في الميته منصوص عليها في كتاب الله.. ولكن الضرورة في حال المحرم غير منصوص عليها. حقيقة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء). إن على المجلس الوطني، وعلى المجالس والمجمعات الفقهية، وعلى الدولة أن تقلع فوراً وبلا إبطاء عن هذه القروض الربوية التي تعد حرباً على الله وعلى رسوله، وهي سبب ما نحن فيه من الضيق والضنك ومن القلة والذلة ومن الجوع والمسغبة. (يمحق الله الربا ويربي الصدقات..) (فأذنوا بحرب من الله ورسوله).