ü تابعت بالورقة والقلم ندوة «مشكلات الاستثمار» التي قدمها الزميل الطاهر حسن التوم عبر برنامجه المشاهد «حتى تكتمل الصورة» على قناة النيل الأزرق مساء أمس الأول (الاثنين).. لعليّ أظفر بجديد.. فخاب ظني، ومبعث الخيبة ضمن الخيبات المتقاطرة على حياتنا على مدى العقود الأخيرة «المتوالية» هو أن الطاهر نثر كنانته الواسعة من المصادر وانتقى من يعتقد أنهم يملكون مفاتيح الجواب في كل ما يتعلق ب«غلوطية» الاستثمار، في مقدمتهم وزيره والأمين العام لمجلسه الأعلى مصطفى عثمان.. بالإضافة للفريق الفاتح عروة العضو المنتدب لشركة اتصالات «زين» ورجل الأعمال رئيس مجلس المستثمرين السودانيين في اثيوبيا، بالإضافة للمحلل السياسي ورئيس تحرير مجلة «ايلاف» الالكترونية د. خالد التجاني النور، الذي كان «نوارة الندوة»، وخفف عنا بعض آثار الخيبة وشدة وقعها. ü مناسبة المنتدى التلفزيوني هو الحديث الغاضب للدكتور مصطفى اسماعيل في إحدى جلسات البرلمان الاسبوع الماضي، والذي عبر فيه عن استيائه من هروب رأس المال السوداني للاستثمار في الجارة اثيوبيا، حيث يستثمر رجال الأعمال السودانيين في (723) مشروعاً بتمويل يصل إلى (946) مليون دولار، بينما البلاد في أمس الحاجة لجهودهم وأموالهم.. وتمحور الحديث في اللقاء في محاولة الإجابة على السؤال المركب: لماذا يهرب رجال الأعمال السودانيين.. ولماذا ينأى المستثمرون العرب والأجانب بأنفسهم وأموالهم عن السودان.. ومن المسؤول؟ ü الوزير مصطفى عثمان، تحدث عن البيئة الاستثمارية الطاردة للسودان ومنها مسألة الأراضي وصعوبة الحصول عليها والقوانين المنظمة لتخصيصها، حيث يخرج المواطنون ب«عكاكيزهم» كل مرة في مواجهة الحكومة والمستثمرين عندما يسمعون بتخصيص جزء من أراضيهم أو حيازاتهم لمشروعات جديدة، كما قال.. كما تحدث عن ما أسماه ب«المسؤولية التضامنية» للجهاز التنفيذي للحكومة.. وهو جزء منه كما اعترف.. مشيراً لمشكلات الكهرباء والعملات الصعبة في مواجهة الجنيه، والتشريعات والقوانين التي يجب أن يصدرها البرلمان، ودور وزارة العدل في انفاذ تلك التشريعات، بالإضافة إلى البيروقراطية وطول إجراءات التصديق على المشروعات. ü أما الفاتح عروة فقد ذهب إلى المقارنة بين السودان واثيوبيا- التي يعرفها جيداً- مشيراً إلى ضرورة سن التشريعات والقوانين الميسرة للاستثمار، ومضى للحديث عن بيروقراطية الدولة وما تضعه من عراقيل وعقبات قال إنها تشكل مدخلاً للفساد، حيث يحاول المستثمر أن يختصر وقته بتفادي تلك العقبات أو لتوفير الحماية عبر أحد المسؤولين الكبار أو الوزراء كما يتصور فيلجأ «للسماسرة» الذين أكد دورهم كذلك مصطفى عثمان.. اولئك السماسرة الذين يتوافدون على الفنادق حيث ينزل المستثمرون ويصورون لهم أن بمقدورهم تسهيل أمورهم عبر نافذين ومسؤولين في الدولة ويقبضون منهم الرشاوى.. وهذا في النهاية يزعزع ثقة المستثمر في جدية الدولة ومدى حرصها على خلق بيئة استثمارية مواتية وعادلة تضمن له عائداً مجزياً لما ينفقه من أموال. ü المفاجأة التي فجرها الفاتح عروة، كانت تبرئة «شركة عارف» التي دخلت في شراكة مع الخطوط الجوية السودانية، وانتهت تلك الشراكة إلى الفشل بما في ذلك فقدان «سودانير» لخط هيثرو.. فقال إن شركة عارف هي شركة عامة وليست «شخصية»، ولكننا فرضنا عليهم إدارات بواسطة اشخاص كانت لهم مصلحة في أن تستمر سودانير كشركة حكومية وبذات النهج القديم الذي أقعدها. ü أما د. خالد التيجاني فقد تحدث بصراحة أكثر وجذرية أكبر لتشخيص الأزمة وقال: لا يمكن أن نعزل المشكلة من البيئة السياسية.. المسألة لا تحتمل التصوير على غير حقيقتها، فما ذكره د. مصطفى يعني أن الوضع في اثيوبيا والبيئة الاستثمارية أكثر جدوى.. وضرب مثلاً بمؤتمر الملك عبد الله للأمن الغذائي العربي، حيث تم ترشيح السودان ضمن خمس دول للاستثمار في توفير الغذاء، لكن السودان فشل في أن يكون جاذباً للاستثمار في هذا المجال.. فالأمر أوسع من ذلك ويتصل بالأوضاع العامة، وشكوى المسؤولين حول البيئة الاستثمارية يجب أن نقولها نحن «ناس الجرايد».. وتحدث عن أن الاثيوبيين يعيدون انجذاب الاستثمار إلى بلادهم بسبب السلام، بينما نحن لا تزال الحرب دائرة في أطراف بلادنا، فالسلام يعني الاستقرار الاقتصادي الجاذب للاستثمار.. بينما يتحدث الماليزيون عن دور «التعاونيات» في جذب الاستثمار، وفي بلادنا ليس هناك صيغة واضحة تشرك المواطن عبر التعاونيات أو غيرها في عائدات الاستثمار بما يحفزه على الشراكة والمساهمة في خلق البيئة الصالحة للاستثمار.. والقوانين وحدها ليست كافية فلابد من خلق الرضا والبيئة المناسبة لتفعيل تلك القوانين.. فعندما يشعر المواطن بأن هذا المشروع أو ذاك سيسهم في تحسين حياته فلن يعترض عليه أو يقاوم تنفيذه. ü تحدث كذلك وجدي ميرغني عن تجربة رجال الأعمال السودانيين في اثيويبا وكيف أن أكمال الاجراءات الرسمية لتصديق المشروع تأخذ بين «يوم واحد و 48 ساعة» بما في ذلك فتح الحساب واستلام الأرض والاستعداد للتنفيذ، وقارنها ب«المطاولات» القاتلة التي يتطلبها الترخيص لأي مشروع في السودان، ولتعامل الدولة الاثيوبية وموظفيها والجمهور مع المستثمر بما يريحه ويطمئنه على مستقبل مشروعه وعائداته. ü وبمداخلة هاتفية مع الاستديو قال الاستشاري الاقتصادي والقانوني الطيب حسب الرسول عن افادات د. مصطفى عثمان إنها «خطوة خجولة» واعترافات على طريق التصحيح، وحمّل المسؤولية بالكامل للحكومة، وعَقَد مقارنة بين اجراءات التصديق في كل من كينيا واوغندا واثيوبيا من جهة، وجميعها لا تتعدى يوماً واحداً بينما تستغرق سنوات في السودان.. مشيراً إلى تجربتهم مع مستثمرين كوريين ظلوا ينتظرون لثلاثة مواسم دون أن يستلموا الأرض، وعندما ذهبوا لمسؤول الولاية المعنية كانت إجابته «إن أرض الأجداد عزيزة علينا» بمعنى أنهم لن يفرطوا فيها بسهولة. ü أختم، بالتأكيد على كل ما ذهب إليه د. خالد التجاني والمستشار حسب الرسول، وأجدني موافقاً على تشخيص التجاني بأن أمر الاستثمار في بلادنا يتجاوز كل تلك التفاصيل المعيقة والمضنية حول الإجراءات التي ما هي إلا بمثابة عرض لمرض.. مرضٌ كامن في الرؤية السياسية ودور الدولة المفترض في تهيئة المناخ الاستثماري، بالرغم من كل الكلام المكرر والمعاد عن «التحرير الاقتصادي» في غياب «التحرير السياسي».. وأهم من ذلك يمتد المرض إلى اختفاء «دولة الرعاية» من أجندة الحكومة بما أفقد «المواطن» قبل المستثمر المحلي أو الأجنبي الثقة في جدوى الاستثمار.. مما جعله يحمل «عكازه» للدفاع عن أرضه ليس كراهة في الاستثمار والمستثمرين ولكن لقناعة معززة بتجارب الآخرين مع مثل هذه الاستثمارات التي ترعاها دولة نسيت مواطنيها فانساها الله نفسها.