المشهور عن الإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، منذ نعومة أظفاره السياسية وحتى بلغ من العمر عتيا- أنسأ الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية- أنه من ساستنا القلائل الذين يراقبون ويرصدون المشهد السياسي ويدوِّنونه ويحللونه بأفضل ما يكون الرصد والتدوين والتحليل، لكن السياسة في بلادنا وبلدان أخرى كثيرة، متخلفة و متقدمة على حد سواء، لا تأبه كثيراً ولا تتوقف تطوراتها ولا مآلاتها، لا على التحليل النظري الصحيح ولا على أشراط الحق والواجب. بل لها ديناميتها الذاتية وآلياتها الخاصة التي تحكمها في الأغلب الأعم المصالح، لذلك قيل عنها إنها «لعبة قذرة» وإنها «لاتعرف الصداقات أو العداوات الدائمة، إنما المصالح الدائمة»، وهو توصيف يبعد عنها «شبهة الوفاء والأخلاق» في آن معاً، فالوفاء بالوعد أو العهد أو للوطن، أو الأخلاق الحميدة تتجافى مع مفردات القاموس السياسي. فإذا ما استعرضنا التاريخ طولاً وعرضاً، سنجد بلا شك أن أشهر ضحايا السياسة هم أولئك القادة الذين استمسكوا وقبضوا على جمر الحق والحقيقة، وأقرب هؤلاء إلى الأذهان في أيام «عاشوراء» هذه، هو سيد الشهداء الحسين بن علي الذي قضى نحبه وسط آل بيت النبي الأعظم في كربلاء، فلم يشفع له أنه ابن فاطمة الزهراء أو علي «باب العلم في مدينة النبي» كما ورد عنه عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، قضى الحسين شهيداً «بسيوف يزيد السياسية». وبإمكاننا رصد العشرات بل المئات من القادة العظام في كل الملل والبلدان، الذين غادروا الدنيا بغدر السياسة أو غادرتهم السياسة وتخطتهم «بمصالحها» الغلابة. في منتدى الصحافة والسياسة أمس الأول(السبت)، الذي أُقيم في غير موعده المعتاد (الأربعاء الأخيرة من كل شهر)، قدم المهدي- كالعادة- تحليلاً رفيعاً وقراءة مدققة لأحوال البلاد التي تشهد التحضير للاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان، الذي يجمع المراقبون على أن نتيجته الحتمية ستكون الانفصال، وقال المهدي، الذي كان يتحدث بمناسبة تدشين كتابه الجديد «ميزان المصير الوطني في السودان»، إن اتفاقية سلام نيفاشا وعدت بجعل الوحدة جاذبة، ولكن أربعة عوامل فيها جعلت الانفصال جاذباً. وحدد هذه العوامل في: تقسيم البلاد على أساس ديني بحكم بروتوكول ميشاكوس، وتخصيص «50%» من بترول الجنوب للجنوب ما جعل الانفصال جاذباً لينال كل بتروله، حصر الشراكة في حزبين على طرفي نقيض آيديولوجياً، واكتساب المؤتمر الوطني جفوة دولية- قل أمريكية- والحركة مودة دولية. ثم عرج المهدي على الانتخابات الأخيرة- أبريل 2010- وقال إنها كرّست هيمنة المؤتمر الوطني على الشمال والحركة الشعبية على الجنوب، ونتيجة للمساومة الحزبية صار قانون الاستفتاء وتكوين المفوضية غالباً في يد الحركة، وأصبح أكثر من 95% ممن سوف يصوتون في الاستفتاء مقيمين في الجنوب، ومع انحياز الحركة الشعبية للانفصال فإن الانفصال تحصيل حاصل. وأكد المهدي أنه تم «عزلهم» من اتفاقية السلام، بل من الشأن الوطني بإرادة الشريكين ومباركة الأسرة الدولية، وأنهم «قبلوا» كل التطورات رغم عيوبها «بحكم الأمر الواقع وتجنباً للحرب»، وأن كل «محاولاتهم» لاختراق الآحادية والثنائية بنهج قومي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أخفقت، ونفس المنطق القديم «يلزمهم» بقبول الاستفتاء القادم رغم العيوب. هذه «العزلة» السياسية المفروضة من قبل الشريكين والمباركة من الأسرة الدولية، وهذا «القبول» القسري بالأمر الواقع تجنباً للحرب، وهذه «المحاولات» لاختراق الآحادية والثنائية بنهج قومي التي انتهت إلى الفشل والإخفاق، هي ما دفعت المهدي لطرح «خياراته» الجديدة على المؤتمر الوطني وعلى حزبه، وربما تكون هي المرة الأولي، التي يطرح فيها المهدي خياراته بمثل هذا التحديد ويتبعها بموقفين سياسيين سيتخذ واحداً منهما، إذا لم يستجب المؤتمر الوطني للخيار الثالث الذي أسماه «الطريق السياسي السلمي»، فإما أن ينضم ل«صف الإطاحة» أي المواجهة مع النظام، وإما التخلي النهائي عن العمل السياسي وإفساح المجال لحزبه لاختيار قيادة جديدة. الطريق الثالث الذي يراه المهدي مخرجاً سلمياً لأزمة البلاد التي ستترتب على الانفصال في المناخ الحالي، والذي سوف يحدث تغييراً نوعياً في المشهد السياسي للبلاد و «يجعل المواصلة مستحيلة» رتبه المهدي في سبعة مطالب هي: حل أداة الحكم الحالية وتكوين حكومة قومية جامعة، تكون مهمتها، إدارة الشأن الوطني والدعوة لمؤتمر قومي دستوري لكتابة دستور البلاد الدائم، إبرام معاهدة توأمة مع دولة الجنوب فوراً، الاستجابة لمطالب أهل دارفور المشروعة وتعميم ذلك على الأقاليم الأخرى، توفير الحريات العامة، التصدي للمسألة الاقتصادية، التعامل الواقعي مع المحكمة الجنائية. وأردف المهدي أنه إذا قبل المؤتمر الوطني هذه الخريطة فيمكنه وحزبه الخوض في التفاصيل والتوقيتات، وإذا رفضه فسوف يوجه الدعوة لمؤتمر عام لحزب الأمة ليقرر الحزب موقفه من المشهد الجديد، و أكد على أنه «شخصياً» في هذه المرحلة من العمر سوف «يستخير» لاتخاذ واحد من الخيارين الآخرين «الانضمام لصف الإطاحة» أو «التخلي النهائي» و الاستقالة من العمل السياسي. واختار المهدي لذلك تاريخاً لا يخلو من رمزية في تاريخ حزبه وتاريخ السودان الحديث (26 يناير)، 1885 تاريخ فتح الخرطوم على يدي الإمام الأكبر محمد أحمد المهدي. وعوداً على بدء، أقول للإمام الصادق- وهو سيد العارفين- إن «السياسة» لا تأبه كثيراً للتحليل النظري الصحيح ولا على أشراط الحق والواجب، إنما تحكمها دينامياتها الذاتية وآلياتها الخاصة، التي هي «المصالح»، وفي سبيل هذه المصالح يتم تسخير «القوة والشوكة». وهذا كان دأب «الإنقاذ» منذ يومها الأول- 30 يونيو 1989- عندما أطاحت بحكومتكم المنتخبة بقرار من الجبهة القومية الإسلامية، واستخدمت «شوكتها» هذه في كل معاركها مع أعدائها السياسيين والفكريين، وواصلت «نهجها الرسالي» قبل وبعد اتفاقات السلام، بما في ذلك «اتفاقية نيفاشا وميشاكوس» التي قسمت البلاد أصْلاً إلى جزئين شمال يحكم بالشريعة- لنقرأ الإنقاذ- وجنوب علماني تحكمه الحركة الشعبية، متبوعاً بحق «تقرير المصير» الذي لم يكن ليفضي إلى نتيجة «ثالثة»، بأن يجعل الوحدة جاذبة مثلاً، فالاتفاقية قد مهّدت الأرض وبذرت البذرة التي لن تكون ثمرتها شيئاً آخر غيرالانفصال. أما اقتراحكم بحل الإدارة الحالية وتشكيل حكومة قومية جامعة، فهو مطلب قديم، يعود تاريخه إلى «اتفاقية جيبوتي» التي نادت «بدولة الوطن» بديلاً لدولة الحزب، وإلى اتفاقية القاهرة وكل الحوارات والاتفاقات الأخرى حتى انقضاء الأجل الدستوري وفق اتفاقية السلام «لحكومة الوحدة الوطنية» في التاسع من يوليو 2009، لكننا لم نسمع يوماً، حتى بعد أن تأكد للجميع أن الانفصال هو الأجل المحتوم، من أي من قادة المؤتمر الوطني- تصريحاً أو تلميحاً- بأنه سيتم النظر في تشكيل حكومة قومية لمواجهة المشهد السياسي الجديد الذي يترتب على انفصال الجنوب بل، على العكس من ذلك صبّت كل تصريحاتهم وأحاديثهم في اتجاه التمسك بنتائج الانتخابات الأخيرة إلى حين انقضاء الأجل الدستوري للحكومة الحالية، بمجلسيها التنفيذي والتشريعي، وكم تهكم بعض قادة المؤتمر الوطني على مثل هذه الدعوة في كل مناسبة صدرت فيها عن قوى المعارضة، واعتبروها «محاولة يائسة لإسقاط الإنقاذ» أو «بعض أحلام ظلوط»، ودون ذلك خرط القتاد. أما المطالب الأخرى المترتبة على قيام «حكومة قومية» فتسقط بالضرورة لأن المطلب المفتاحي لا سبيل إليه، فلا المؤتمر الدستوري مقبول، والدستور الانتقالي سيحول إلى دستور دائم بعد حذف وتعديل المواد المتعلقة بالجنوب، مثلما هو الحال مع مطالب أهل دارفور خصوصاً تلك المتصلة بالأقليم الواحد وقسمة السلطة، فللإنقاذ رؤيتها الخاصة وإستراتيجيتها الخاصة فيما يتصل بدارفور. أما المحكمة الجنائية، فهي ليست موضوعاً للنقاش، ولا حتى المحكمة «المختلطة» التي اقترحتموها للتوفيق بين مطالب العدالة ومتطلبات الاستقرار- والتي تبناها تقرير أمبيكي وهيئة الحكماء الأفريقية- مقبولة. أما ما عبَّرتم عنه من مخاوف من «تفكيك السودان»، وبرغم المؤشرات العديدة التي ترجح إمكانية حدوثه، فقادة المؤتمر الوطني يرون العكس وعبّروا صراحة عن ذلك ويطمئنون الشعب كل يوم بأن حال الشمال إذا ما وقع الانفصال سيكون أفضل مما كان عليه من قبل، وأن «الأرزاق بيد الله».. وما علينا إلا أن ننتظر «السادس والعشرين من يناير».. والخير في ما يختار الله.