الأستاذ مؤمن.. أحسن الله العزاء.. وكلمات لابد أن تقال في حضرة الراحل دقه أواخر ديسمبر عام 1983م قمت بزيارة لمولانا الأستاذ دفع الله الحاج يوسف لوداعه قبل سفري للاتحاد السوفيتي لاستلام عملي كمساعد للمستشار الثقافي بسفارتنا بموسكو، وكغير العادة لم يطل مولانا الحديث معي قائلا:ً لن تحتاج لوصية ستجد في موسكو «رجلاً نادراً» يكفيك كل شيء.. لعلمي أن مولانا دفع الله ينتقي كلماته بعناية فقد انتبهت للتعبير ولكني لم أفطن وقتها للمراد، واعتبرت الأمر مجرد ثناء عابر على شخص الأستاذ عبد الرحمن أحمد دقه المستشار الثقافي بموسكو آنذاك. قضيت سنوات بعد ذلك معاوناً للأستاذ دقه في موسكو ونعمت خلال تلك الفترة بصحبته الهانئة ووده المقيم.. ما سمعت من الأستاذ دقه إلا كلمات الثناء على عملي وشخصي وما وجدت إلا الدعم السخي.. جاهدت لأتعلم منه بعض ما وسعت له مواعين معرفتي.. وحسبي أن وجدت فرصة أن أنهل طرفاً من خبرة وعلم ذلك البحر العريض.. وعلمت وفهمت من بعد ما المقصود بالرجل النادر.. إنه العطاء الذي لا يعرف الحدود والالتزام المسؤول بالتكليف أياً كان.. أكتب هذا وقد رحل الأستاذ عبد الرحمن دقه عن دنيانا قبل أيام إلى دار الخلود حاملاً معه عمله الطيب ودعوات صادقات من إخوته وأحبابه بالرحمة والمغفرة. كان عبد الرحمن باراً بأهله حفياً بأصدقائه، محباً للخيرات وطيب الأعمال، محبوباً من الجميع صغاراً وكباراً. ولن تكفي الكلمات جميعها لتعبر عن حزننا في فقده.. ولمؤمن الغالي الشكر فقد كتب بإحساس الجميع: الأهل والأحباب والأصدقاء والمعارف حزناً يغالب آخر ويزاحم. من يعرف الأستاذ دقه يعلم بالقطع أنه نسيج وحده.. لا يكذب ولا يداهن ولا يرائي.. الحق عنده واضح والحقيقة.. وللعجب ينبلج الطريق الحق أمامه بسهولة كما الصبح الفلق وفي غير عناء يمضي فيه عبد الرحمن ويكشف عن معدن في الرجال قليل.. تابعت عمله عن قرب وعرفت كيف يكون الرجل مهموماً بعمله.. يعمل ويعمل صباح مساء ولا يتشدق بما فعل بل يحاسب نفسه مباشرة عن أمور صغيرة تكاد لا تلحظها.. ما غابت عنه للحظة الفكرة الرئيسية وهي أنه جاء ليخدم بلده ومواطنيه، فوجدنا بفضل عبد الرحمن دقه احتراماً كبيراً من السلطات التعليمية في روسيا وشقيقاتها دول الاتحاد السوفيتي السابق.. ووصل عدد المنح للسودان في عهده إلى ما يزيد عن الألف منحة كاملة. ورغم أن تلك المنح كانت تقدم للسودان عبر جهات مختلفة كحكومة السودان، الحزب الشيوعي، اتحادات العمال والشباب والمرأة، جامعة الخرطوم، الخريجين، منظمات الأممالمتحدة، جامعة وجمعيات الصداقة، إلا أن السلطات التعليمية في موسكو تعاملت مع عبد الرحمن دقه مباشرة في كل ما يهم جميع ومجموع الطلاب، ثقة في شخصه ولمعرفتهم باحترام كل تلك الجهات له. تمثل سيرة عبد الرحمن عند قراءتها تجربة حقيقية في التعامل الانساني الرفيع في العمل العام وفي الامتثال للمسؤولية الاخلاقية في نفع الناس. داره تسع الجميع ولا مكان فيها إلاّ للحديث العفيف اللطيف.. مكتبه عمل دؤوب، وعبر زيارات واتصالات هاتفية بطشقند وكراسنادر وباكو وكييف وغيرها من المدن في تلك الاصقاع البعيدة من ذلك القطر الكبير، يتواصل العمل في صبر لحل هموم طلاب وطالبات في ظروف تحتاج لكثير من التدبر والتدبير. ظل الأستاذ دقه راكزاً لا يحتفي إلا بما يعتبره في مصلحة وكسب أبنائه من المبعوثين والطلاب، فلا ينتظر في كثير الأحيان توجيهات الخرطوم ويتخذ القرار المناسب الذي يكفل حسماً للمشكلة وليؤمن استقراراً للطالب أو المبعوث المعني- حقاً وعدلاً- مستنداً في كل ذلك إلى أعراف إدارية سنها بنفسه والزمها بها في طمأنينة.. كنت أتعلم منه يومياً وأنظر باعجاب كبير لمرونته وحنكته في التعامل مع اتحادات الطلاب في موسكو، وفي بيئة سالبة أواخر عهد مايو في ظل تناحر بين الأجهزة الرسمية والاتحادات.. وقف عبد الرحمن في حياد بارع ملتزماً جانب الوطن والوطن وحده.. وهكذا بسماحة وشجاعة يذهب لحضور مؤتمرات طلابية تجاهر بعدائها وتندد بالسلطة الحاكمة في الخرطوم وبسفارتها بموسكو، وفي وسط الحشود يستمع عبد الرحمن يجاوب ويركز على ما يجمع أبناءه لا ما يفرقهم، ويمضي في ترتيب بديع مركزاً على القضايا الاكاديمية موجهاً وناصحاً. هذا قليل جداً من صفحات تطول في سيرة رجل نادر تصدى للمسؤولية في العمل العام بالسهل الممتنع، متخلقاً بآداب تراث تربوي ممتد وبأدبيات الرعاية والحماية المستمدة من تقاليد أهلية رصينة.. غالب المسؤولية وصرعها بمثل وأخلاق جعلت من المنشورات الإدارية ورقاً لا قيمة له إلا بمقدار الانحياز للحق.. ما زاغ عنه أنه من حمأ مسنون من هذه الأرض الطيبة فبادلها غرساً بغرس بدءاً، بمفتاح المعرفة في بخت الرضا وختماً بجامعة القرآن الكريم، وبين ذلك سقى ورعى عهوداً من المحبة الصادقة مع آلاف المعلمين والطلاب الذين سيدعون له بالرحمة والمغفرة وبإذنه تعالى.. ويبقى العزاء لآل وأحباب وعارفي فضل الرحمن أحمد دقه والله نسأل أن يهبنا من بين أبنائنا من هو في ورع عبد الرحمن وكرمه إنه نعم المولى ونعم النصير. بدر الدين عمر الحاج موسى الخرطوم بحري