قالت العرب قديماً: «آخر شهوة تخرج من الرجل هي شهوة السلطة».. والسلطة هي في باطنها تولي الأمر واتخاذ القرار وفي أبسط صورها أن يكون القلم بيد المرء يفعل ما يريد، وإبليس عليه لعنة من الله كان أول من حسد، حيث اعتبر أن خلق الله للإنسان أخذ لسلطته ووظيفته ومنصبه فأورده حسده الكفر والمهالك، والتاريخ يخبرنا عن معارك أريقت فيها أنهار من الدماء من أجل السلطة، فشهوة السلطة تبقى هي من أقوى الشهوات التي تسيطر على الإنسان ويشترك في هذا الأمر الناس جميعهم، ففي دهاليز نفس كل إنسان حنين إلى هذا الكرسي والتبوؤ عالياً فوق الآخرين، ابتداءً من رؤساء الدول وحتى مربيات رياض الأطفال ومروراً بمستويات الهيئات الدولية سواء كانت أمماً متحدة أو يونسكو. فما يجري في دهاليزها من اقتتال من أجل المنصب، هو شبيه بما يجري بدرجة أو بأخرى بذلك الموجود عندنا في منظومة أبناء الشارع «الشماسة» وهم يوزعون المقاعد في اجتماع لهم داخل خور أبو عنجة! وذات الأنانية والخوف الاستباقي الذي دفع الإمبراياليين لإقصاء العالم المصري البرادعي خوفاً من تعاطف مستقبلي تجاه قضية إيران؟ هي ذات الأسباب التي دفعت - بحسب باحثة اجتماعية في حديثها معي - دفعت «أب كراع» وهو قائد الشماسة، إلى طرد «سوسيوة» وهو بمثابة نائب له خارج منظومتهم الشماسية، لأنه جاءه تقرير من «الفارات» أمن الشماسة فيه بأنهم شاهدوا «سوسيوة» وهو يتقبل كوب عرديب من رجل شرطة في كافتيريا بالشارع العام، مما يعد مخالفاً لمهنية وقوانين الشماسة بعدم التعامل مع الأعداء! ولكن المفاجأة أتت سريعاً حين عرف قائد الشماسة «أبو كراع» أن تقارير «الفارات» بحق «سوسيوة» كانت مفبركة، حيث تمت رشوتهم من قبل «الجوكي» ببقايا وجبة بيتزا ليطرد «سوسيوة»، ويحقق «الجوكي» حلمه فيصحو ذات صباح ليجد أنه النائب الأول لقائد عام الشماسة!! في هذه القصة الحقيقية والتي كانت جزءاً من بحث حول الانضباط التنظيمي داخل مجموعة الشماسة لباحثة إجتماعية، خير دليل على تلك الشهوة المتسلطة على أبناء آدم جميعهم، فما إن تدخل وزارة أو شركة أو منظمة أو تجلس حتى بجانب عمال فرن، حتى تسمع مر الشكوى ممن يرأسونهم بأن كل شخص يرى مسؤوله غير جدير بمقعده، وهكذا تحس في كل مكان بتلاشي روح الزمالة وحلول روح المكائد والدسائس، فيأخذون في ذم الزميل أو الزميلة في التقصير في أداء عمله وحتى رميه ربما بالانحراف الأخلاقي، والبحث ربما حتى عن ماضيه البعيد ومن ثم رص منظومة تدبج على هذا الشخص الذي ربما يكون مظلوماً وغيرها من الاتهامات.. إذن هذه السلوكيات السلبية باعتقادي هي من أكبر المعطلات لأي عمل، إذ يفقد الإنسان الإحساس بالانتماء لهذه المنظومة الجماعية العاملة، وينتقل الشخص من فرد منوط به أداء دور معين في العمل إلى فرد سالب تجاه العملية المراد إنجازها، فيتخندق مع نفسه في ذاتية شديدة ليعطل عملاً يستفيد منه الآخرون! وقد حدثني رجل مسن ومحترم حقيقة وهو يعاني الأمرين منذ ثلاثة أشهر، حيث ذهب لإنجاز معاملة في إحدى الوزارات الكبيرة، فتفاجأ بأن معاملته لم تخرج من درج المسؤول إلى المسؤول الذي يليه منذ شهرين، في حين أنهم قد وعدوه باستلامها بعد يومين! ولما استفسر الموظف عن سر التأخير أخبره بأنه أخر معاملته ولم يمررها للآخر لأنهم متخاصمون ولا يكلمون بعضاً!! وعندما زالت سحابة التعجب من فوق رأس عمنا المسكين استأذن الموظف بأن يأخذ ملفه ويدخله بنفسه للمسؤول الآخر، ولكنه أخبره معتذراً بأن قوانين الوزارة تمنع أن يحمل الموظف الملف بنفسه! والحل؟ الحل يكمن في أن يموت أحد الموظفين أو ينزل أحدهما في إجازة أو يفصل أو يحال إلى المعاش!! هناك حل آخر سحري وهو أن يأخذ الرجل أوراقه «ولينسى الفكرة»! فقلت في نفسي لماذا تذكر هذا الموظف قانون الوزارة وتناسى قانون أسمى إلهي تمثل في أن «الدين المعاملة»..! ونموذج آخر لرجل رفض أن يقدم استرحاماً عن موظف بسيط لأنه ترأسه امرأة!! ويبدو أن روح فريق العمل تندر عندنا في السودان وهي آفة حقيقية. ليس النموذجان اللذان قدمتهما في ما سبق الضحايا الوحيدين لها، وتبقى أن أقول إن الحسد وحب النفس واختزال الوظيفة وفقاً لما تدره للإنسان من فائدة بالمنظور الضيق، وتمني زوال نعمة الآخر لهي من أمراض الروح، وعلاجها بالإخاء والمحبة والإحساس بأن كل انتصار وإنجاز للجهة التي يعمل فيها الفرد لهي انتصار له، ويبقى أن نعرف أن إنجازات ضخمة لوكالات ومؤسسات وجامعات وشركات عالمية كان بسبب إيمانهم بتحقيق النجاح، وقد يصادف أن يكون مسيحي ومسلم وملحد ومن عدة أجناس في فريق واحد، وتجد منهم النجاح والإنجاز على اختلافاتهم العميقة، لأنهم تواضعوا لإنجاز مهمة فكان ولاؤهم لها عالياً وسبباً في هذه النجاحات بلا أحقاد كراسي وحسد ونميمة. ü حاشية : كم منا من يشعرون بالانسجام مع زملائهم في العمل؟!