الانتخابات أي انتخابات ليست غاية تنتهي بإعلان النتائج، إنها وسيلة لغاية سامية هي إعمال واستدامة الديمقراطية الحقيقية، وكلمة ديمقراطية أصلها من الحضارة الإغريقية القديمة Demokratia مشتقة من كلمتي Demos وهي عامة الشعب.. + Kratos وهي الحكم والقوة، بمعنى أنها حكم الشعب بنفسه وهي «Government of the people by the peopge for the people» وهي حكومة الشعب المنتخبة بواسطة الشعب من أجل الشعب. لذلك الديمقراطية ليست انتخابات فقط، بل هي إحدى وسائل حكم الشعب لنفسه تحت مظلة قيم ومستحقات سامية متمثلة في النزاهة، الشفافية، العدل، المساواة والحرية وهي مستحقات معقدة، صعبة الإستدامة لأنها تتطلب الوعي الذي يرتكز على ثلاث شعب- التعليم، التثقيف والاتصال- عليه يصبح من الخطأ أن نحمل الانتخابات القادمة كل، أكرر كل مستحقات التحول الديمقراطي واستدامته، لأننا اذا أردنا هذا المستحيل لن نخطو خطوات سليمة نحو استدامة التحول الديمقراطي. في هذا الشأن كتب المؤرخ الراحل المقيم د. محمد سعيد القدال في مقال في الأيام في مايو 2007 ما يلي: «إن إجراء الانتخابات ليس حلاً سحرياً، فلن تأتي الانتخابات بحلول سحرية وإنما هي وسيلة تفتح الطريق لإيجاد الحلول، واذا شحنا الانتخابات بطموحات عريضة فإن ذلك قد يؤدي إلى خيبة أمل أشد إيلاماً من انعدام الانتخابات.لقد شهدت البلاد ثلاثة انقلابات عسكرية جاءت كلها بعض انقضاء فترة وجيزة على انتخابات برلمانية، فهل نريد أن نجري انتخابات نبذل فيها جهداً سياسياً ومالياً ثم يأتي انقلاب عسكري ليطيح بذلك الجهد؟».. انتهى.هذه ليست أول انتخابات ولا آخرها، لذلك علينا أن نكون واقعيين ونقبل بها وعليها بطموحات معتدلة لامتحان صعب ونحقق 70% وهي في امتحان الفيزياء في الشهادة تعادل درجة ممتاز، إذ أن درجة النجاح تقل فيه إلى دون 40%.وكما سنرى لاحقاً الشبه الغريب في انتخابات 2010 و1953 والتي في نهاية الأمر أفضت إلى استقلال السودان غض النظر عن كل التحفظات والتخوفات والعنف الذي لازمها، معهد الأخدود في نيروبي أعد دراسة عن انتخابات 2010 بتكليف من الحكومة البريطانية، ثم نشر هذه الدراسة في مايو 2009 في 71 صفحة، الدراسة تتفاءل بنجاح العملية الانتخابية قياساً على تاريخ السودان والسودانيين في انتخابات 1953 التي قامت في ظروف مماثلة لانتخابات 2010. أوجه الشبه بين انتخابات 1953 و2010: - انتخابات 1953 تم إقرارها بواسطة الأجنبي المتمثل في الاستعمار الإنجليزي. انتخابات 2010 تم إقرارها بواسطة الأجنبي أيضاً، والمتمثل في دول الإيقاد وأصدقائها أمريكا وإنجلترا ودول أوربية أخرى في اتفاق السلام الشامل. - انتخابات 1953 كانت لتحدد تقرير مصير السودان، انتخابات 2010 سوف تحدد مصير السودان أيضاً. - في عام 1953 تم تكوين لجنة الانتخابات برئاسة الهندي القانوني سوكومارسن وعضوية بريطاني، مصري وأمريكي، إضافة إلى 4 سودانيين. انتخابات 2010 تم تكوين مفوضية برئاسة القانوني أبيل ألير (يمكن أن يكون أجنبياً مثل سوكومارسن في حال انفصال الجنوب). في انتخابات 1953 قررت لجنة سوكومارسن إقامتها بالاقتراع على ثلاثة مستويات لانتخاب برلمان من 97 عضواً كالآتي: 68 انتخاب مباشر، أي دوائر جغرافية، 24 تمثيلاً نسبياً و5 خريجين. في انتخابات 2010 قررت مفوضية أبيل ألير إقامتها أيضاً على ثلاث مستويات لانتخاب برلمان من 450 عضواً كالآتي: 270 دوائر جغرافية، 112 دائرة للمرأة، و68 تمثيلاً نسبياً.في انتخابات 1953 أثارت مسألة توزيع الدوائر جدلاً كبيراً وسرت وسط حزب الأمة شائعة تقول إن اختيار سوكومارسن جاء بإيعاز من الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس الهندي نهرو لخدمة الوطني الإتحادي وأثار حزب الأمة أيضاً اتهامات حول دخول أموال مصرية في الانتخابات لصالح الوطني الإتحادي، لذلك قام حزب الأمة بالأحداث الدموية أمام القصر في الحوادث الشهيرة بحوادث أول مارس، وذلك في 1/3/1954 وهو يوم افتتاح البرلمان المنتخب وزيارة الرئيس المصري محمد نجيب. كانت نتائج الانتخابات لعام 1953 كما يلي: الوطني الإتحادي 56 مقعداً، الأمة 22 مقعداً، المستقلون 8 مقاعد، الجنوبيون 7 مقاعد، الجمهوري الاشتراكي 3 مقاعد والجبهة المعادية للاستعمار (الشيوعيون) مقعد واحد.وقد كان تعداد السكان 000.840.9 شخص، والمسجلون للانتخابات 913.704،1 (3.17% من السكان)، والمصوتون 943.677 (8،39% من المسجلين).في انتخابات 2010 نفس أجواء 1953 تخيم ونفس الاتهامات من أحزاب المعارضة وفيها حزب الأمة الذي يتهم المؤتمر الوطني مثلما أتهم الوطني الإتحادي في 1953 - الوطني في 1953 و2010 تشابه طريف. اتهامات متبادلة عن أموال داخلية تصرف وأموال خارجية قادمة للمعارضة، نفس الملامح والشبه لعام 1953.أسوأ ما حدث في انتخابات 1953 الأحداث الدموية أمام القصر في مارس 54.. وأجمل ما حدث في انتخابات 1954 قيام الانتخابات بالرغم من كل الشكوك وأفضت باستغلال السودان وإعلانه من داخل البرلمان في ديسمبر 55.. يقول المؤرخ الراحل د. محمد سعيد القدال في مقاله في مايو 2007:«إن برلمان 1954 أنجح البرلمانات في تاريخ السودان السياسي، فقد أرسى قواعد النظام الذي يقوم على تداول السلطة سلمياً، وأنجز السودنة والجلاء وتوج ذلك بإعلان الاستقلال في ديسمبر 1955.»، هذا الحديث مطابق لحد بعيد إلى خلاصة تقرير معهد الأخدود الذي أشرنا له. لكل ما تقدم أرى أن نسمو ونحلق فوق الصغائر والطموحات العريضة المثالية، ونكون أكثر واقعية ولا نحمل الانتخابات القادمة كل مستحقات التحول الديمقراطي واستدامته الأكثر صعوبة، فهذه ليست أول انتخابات تجرى ولا آخرها إن شاء الله، ولكنها الخطوة الأولى في التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلط، والأربع سنوات القادمة ستكون الحقبة الزمنية المهمة لاستدامة الديمقراطية، تعمل فيها كل الأحزاب على ركائز الإستدامة المتمثلة في الوعي الجماهيري والاتصال المستمر بها وإعمال الديمقراطية داخل مؤسساتها الحزبية. والله الموفق ü مهندس- مستشار