انتهينا في الحلقة الماضية من هذه «الإضاءة»، إلى القول بأن متنفذي المؤتمر الوطني كانوا يسخرون في ما مضى من دعوة المعارضة لتشكيل «حكومة قومية»، بعد انقضاء الأجل الدستوري لحكومة الفترة الانتقالية الأولى المشكلة وفق استحقاقات اتفاقية السلام ونصوص الدستور الانتقالي، ورأوا في تلك الدعوة «خطة جهنمية» تنطوي على نوايا شريرة هدفها إسقاط الحكومة بدون انتخابات، بينما كان أولئك المعارضون يُلحون على أن تتفرغ الحكومة القومية المقترحة لمعالجة ذات القضايا الوطنية الكبرى، التي يرى فيها المؤتمر الوطني اليوم سبباً ودافعاً لتشكيل «حكومة شاملة» أو قومية أو ذات تمثيل عريض، وهي أزمة دارفور واستحقاقات تقرير المصير للجنوب. المراقبون يكادون يجمعون- تقريباً- على أن الدافع الأول الذي يرقى لأن يوصف ب(الضروري) هو استحقاق تقرير المصير للجنوب، فهو لا غرو استحقاق مخيف لأيٍّ من يجد نفسه في الحكم وصدارة المسؤولية حين وضعه موضع التطبيق، فإلى جانب كونه قد ينتهي إلى شطر الوطن إلى نصفين، وتلك لحظة تُفتح فيها سجلات التاريخ لتدون الفعل ومسؤولية الفاعلين التي قادت إليه، فلزلزال الانشطار كذلك «هزاته الارتدادية» المتوقعة خصوصاً في بلد ينوء بأزمات واختلالات وتشققات كبيرة كالسودان، فأزمة دارفور مثلاً لم تضع أوزارها بعد ومحاولات الوصول إلى حل سلمي لا تزال متعثرة، فهناك من سالم وصالح ولكنه لم يصل إلى درجة اليقين ولا الطمأنينة بعد أن عاد واحتل موقعه السيادي في سلم السلطة، وهناك من لا يزال يفاوض وينتظر أن ترسو مراكبه على شواطئ الاتفاق وتعتوره شكوك الذين سبقوه إلى الصلح والاتفاق، وهناك من يتمترس في موقفه ولا يرى سبيلاً للسلام والعدالة في ظل هذا النظام، ثم إن انشطار الجنوب وانفصاله قد تكون إحدى هزاته الارتدادية هي «النموذج» أو «المثال» الذي قد يرى آخرون - في دارفور وغيرها من مناطق التماس التي ستخضع لما سمي في نيفاشا ب«المشورة الشعبية» كجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق- ضرورة التأسي به، وهو نموذج إن لم يقد لمطالبة بحق تقرير المصير، كما هو في حالة دارفور، فقد يرفع سقف التطلعات والطموحات لدى أهل جنوب كردفان وأهل جنوب النيل الأزرق الذين حاربوا إلى جانب الحركة الشعبية لسنوات طويلة، وجمعتهم معها رفقة السلاح والأحاسيس المشتركة بالمظالم والأفكار والرؤى المشتركة حول كيفية التحرر من هذه المظالم. هذا غير الهزات الارتدادية الأخرى التي قد تترتب على انشطار الجنوب في جميع أنحاء الوطن جراء الفقر والعوز والشعور العام بالتهميش واحتكار السلطة والثروة لدى قلة قليلة، هي التي تملك كل شيء بينما لا يملك الآخرون أي شيء سوى كدحهم اليومي الذي يوفر لهم بالكاد لقمة العيش على الكفاف، هذا إذا لم يضطروا لتسولها بسؤال الناس إلحافاً. هذا الواقع البالغ التعقيد هو ما دفع عقلاء المؤتمر الوطني للشعور بأن الفوز بالانتخابات- حتى لو جاءت مبرأة من كل عيب- لا يعني ولا يقود بالضرورة والتداعي إلى حل أزمات ومشكلات هذا الواقع، لأنها ببساطة مشكلات مصيرية درج السياسيون للتعبير عنها بأن «نكون أو لا نكون». ورأى هؤلاء العقلاء أن مركب الوطن لن ينجوَ من الغرق إن لم تتشابك الأيدي وتسد كل الثغرات التي تتسرب منها المياه، وما أكثرها من ثقوب وثغرات. ولكي تمضي رؤية هؤلاء العقلاء إلى مراميها وتحقق أهدافها فهناك شروط ضرورية ومداخل أولية لا بد من توافرها. أول هذه الشروط والمداخل هو أن يتصرف المؤتمر الوطني فور إعلان النتائج، ومن الآن فصاعداً، على أنه حزب «منتخب ديموقراطياً»، ويتمثل في سلوكه اليومي مناهج الأحزاب الديموقراطية التي تحرص على توفير وتوقير حقوق الأقلية- سواء كان ذلك في البرلمان أو أجهزة الدولة التنفيذية- فمن أهم سمات الديموقراطية هو حفظ «الأغلبية» لحقوق «الأقلية» التي قد تتحول في دورات قادمة إلى «أغلبية»، وأن ينأى المؤتمر الوطني عن التصرف كحزب غالب وعصبة ذات شوكة، كما كان عليه الحال خلال العشرين سنة الماضية التي هي حصاد انقلاب الثلاثين من يونيو 1989. وهذا يستدعي بالضرورة مراجعة شاملة لتلك المناهج والسياسات التي حكم من خلالها المؤتمر الوطني، باعتباره حزباً(غالباً) استولى على السلطة بقوة الانقلاب والسلاح، وهي مناهج وسياسات لا بد أن تتقاطع مع مطلوبات سلوك(حزب الأغلبية) الذي آلت إليه السلطة بتفويض من الشعب الذي سيصبح هو المرجعية، والذي من حقه أن يسحب هذا التفويض في أي لحظة يشعر فيها بأن الحزب الذي منحه الأغلبية لم يتصرف كما يجب وفقاً لهذا التفويض، وقد حدث هذا وتكرر مراراً في بلدان أخرى لجأت إلى ما يعرف ب«الانتخابات المبكرة» عندما يحزب الأمر وتحتدم الأزمة. أما بالنسبة «للحكومة القومية» وليس فقط ذات «التمثيل العريض»، فإن ذلك يستدعي- كما ألمحنا في الحلقة الأولى من هذه «الإضاءة»- تشكيل آلية قومية لاتخاذ القرارات، خصوصاً تلك التي تتصل بالقضايا الوطنية الكبرى من قبيل «تقرير المصير» و«أزمة دارفور»، لتصبح تلك الآلية القومية هي مرجعية لصناعة القرار والتحرك المشترك في سبيل إيجاد الحلول الناجعة والمتفق عليها، وأن يصار إلى تنفيذها أيضاً عبر حكومة أو أجهزة تنفيذية ذات طابع قومي «لا حزبي»، حتى يشعر الجميع بأنهم شركاء حقيقيون في صناعة القرار وفي تنفيذه، لعل وعسى أن يقود ذلك كله إلى شعور شامل بالطمأنينة والوحدة الوطنية ورغبة في التآزر من أجل خلاص الوطن من أدوائه وأزماته المركبة والمتشعبة.