استطاعت بكل عزيمة أن تتجاوز الموروث الشفاهي المتأصل في أدبيات المجتمع السوداني: «المرة لو بقت فاس، مابتكسر الرأس!»، وفي مجتمع يوصف بالذكوري، ومتهم على الدوام بممارسة الاستعلاء وفقاً لتصنيفات الجندر، نحتت ضيفتنا بعزيمة وصبر سيرتها التي يحق لنا أن نختصرها في العبارة (أنثي ولا دستة رجال!). هالة محمد عبد الحليم المحامي، رئيسة حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق)، (الأهرام اليوم) التقت بها وطرحت عليها عدداً من الأسئلة، منها المتعلق بتوحيد حركة حق عقب عمليات الانشطار المتتالية في صفوف الحزب، استنطقناها حول حصاد برنامج الحركة، وعن انتخابها وما شابَهُ من تشكيك في مقدراتها ومؤهلاتها السياسية، ما وصف يومها بأنه انتصار ل (موازنات النوع). سألناها كذلك عن علاقتهم مع الجمهوريين والليبراليين، قطاع الشمال والحركة الشعبية نفسها، ومجمل تحالفات الحركة، خصوصاً في ظل ما يثار عن تحلل الحركة من البرنامج الفكري، والتزامهم بما يسميه البعض ب(الآيديولوجيا اللايت) مقابل غايتهم السياسية المتمثلة في إسقاط النظام، ما جعل حبل تحالفاتهم يمتد وصولاً إلى القوى الطائفية، الأعداء التقليديين لقوى اليسار التقدمي! حول الانتقادات التي ظلّ يقدمها الحزب الشيوعي لحركة حق في محور العمل الطلابي؛ كانت لنا بعض الوقفات معها، علاوة على استفهامات حول مساعي وإمكانية وحدة اليسار السوداني، ترتيبات الاستفتاء والمخاطر التي تواجهه، قضية دارفور، حال المعارضة وأحوال تحالف جوبا، نظرتهم إلى مستقبل السودان ما بعد يناير المقبل، رؤيتهم لمعالجة القضايا السودانية الراهنة.. كل هذه المحاور وغيرها استمعت إليها مضيفتنا وقامت بالرد عليها بكل أريحية، معاً نطالع حصيلة ردودها عبر هذا الحوار في حلقته الثانية. { ترتيبات الاستفتاء الجارية حالياً كيف تنظرون إليها؟ - هذا الأمر يهم التنظيمات والقوى السياسية، ولكن ظل الشريكان منذ اتفاق (نيفاشا) حريصيْن على عدم مناقشة هذه الأمور مع القوى السياسية، أنا أعتقد أنه الآن فات الوقت وفات الأوان على إشراك القوى السياسية في أي موضوع يتعلق بالانفصال أو الوحدة، ولكن يمكن للقوى السياسية أن تدلي بدلوها في مسألة الترتيبات لما بعد الاستفتاء، لأن الأفكار المتنوعة هذه قد يكون فيها مخرج مما حلّ بالسودان، ووجود مشكلة مستعصية تنذر بكارثة الانفصال، أعتقد أن الحزبين الشريكين غير جادين في إشراك القوى السياسية في أي ترتيبات، وعدم الجدية مشكلة أساسية سوف تدخل البلاد في نفق مظلم، وتبعاتها غير معروفة، وهي بالطبع غير محمودة، ولذلك أنا أرى أن مسألة ترتيبات ما بعد الاستفتاء هي تحتاج بالإضافة إلى الخبرات الدولية وبالإضافة إلى التجارب العالمية التي تمت في تجارب مشابهة فإنها تحتاج إلى شيء من الواقع السوداني الذي تعكسه القوى السياسية السودانية الموجودة في السودان، سواء أكانت في الشمال أم في الجنوب. { حسناً؛ من وجهة نظرك ما هي أبرز المخاطر التي يمكن أن تواجه الاستفتاء علي حق تقرير المصير؟ - أبرز المخاطر هي أن الشريكين قد عزما وقررا وقاما بتعبئة الطرف الذي سيشارك في هذه العملية، علماً بأن الاستفتاء هو حق بالنسبة للجنوبيين فقط، والشماليون لم يكن لهم حق فيه، وأنا أعتقد أن الحزبين الشريكين عملا على تعبئة هذا الطرف للانفصال، وهذه هي الخطورة القادمة، المؤتمر الوطني عمل على تعبئة الجنوبيين - المنوط بهم عملية الاستفتاء - ضد الوحدة وتبني الانفصال خلال السنوات الخمس الماضية وذلك عندما قام بحماية الانفصاليين وأحدث لهم منابر، وكانت كل السياسات تكرس في اتجاه الانفصال، برفض المؤتمر الوطني تغيير القوانين التي اتفق على تغييرها في (نيفاشا) لتوائم الوحدة الجاذبة، والمؤتمر الوطني كما ذكرت لك تبنّى المنابر الإعلامية للانفصال والصحف والشخصيات التي كانت تدعو إلى الانفصال بشكل سافر، كل هذا تم والآن لن يستطيع أن يغير موقفه، والحركة الشعبية كذلك كرد فعل على كل التعنت الذي واجه به المؤتمر الوطني تنفيذ الاتفاقية رعت الانفصاليين في الجنوب، وعبأت الشارع الجنوبي بالانفصال، وما حدث من أنا أعتبره هو الخطر الحقيقي علي الاستفتاء. { في ما يتعلق بقضية دارفور، برأيك لماذا لم تكن الحكومة السودانية جادة في حسم هذا الملف؟ وما هي رؤيتكم لحل القضية؟ - لأن ببساطة شديدة الحكومة السودانية طرف في هذا النزاع، هي لن تستطيع أن تحسمه لأنها طرف فيه، ولن تكون أصلاً أنت الخصم والحكم، المشكلة والملف الذي يتعلق بدارفور يحتاج إلى إرادة سياسية غير متوفرة عند هذه الحكومة بمسمياتها المختلفة، إذا كانت حكومة الوحدة الوطنية، أو الحكومة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، كل هذه الحكومات بمختلف مسمياتها لم تكن جادة في طي هذا الملف، لأنها لا تملك الإرادة السياسية لإنهاء هذه المشكلة، وإنهاء هذه المشكلة وطي هذا الملف بيد الحكومة، فقط يحتاج إلى الإرادة السياسية لقفل هذا الملف. { إذا استمرت مشكلة دارفور ولم يتم حلها، هل يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى مطالبة أهل دارفور بحق تقرير المصير أو الانفصال؟ - كل شيء في السودان أصبح وارداً، طالما حزب المؤتمر الوطني يمسك بزمام السلطة ويرفض بأحادية شديدة مشاركة وتداول السلطة بينه وبين القوى السياسية الموجودة في السودان، يصبح كل شيء جائزاً، وكل شيء ممكناً، كما حدث في الجنوب الذي هو جزء من السودان، ما الذي يمنع أي جزء آخر من السودان أن يحدث فيه ما حدث للجنوب؟ { كيف تنظرون إلى حال المعارضة السودانية وخصوصاً (تحالف أحزاب جوبا) بعد فشله في تحقيق أهدافه ومن بينها فشله في إدارة ملف الانتخابات الماضية برؤية موحدة، فضلاً عن عجزه في تحقيق جزء كبير من أهدافه التي كان يسعى إلى تحقيقها؟ - هذا النظام باقٍ لضعف المعارضة، والمعارضة عندها أسبابها طبعاً في ظل الشمولية والنظام الإقصائي والأحادي الذي كان سائداً، يمكن أن نجد التبريرات والأعذار الكثيرة التي أودت بالمعارضة إلى هذا الضعف، ولكن حتى ما كان مرجواً من المعارضة، وما يمكن أن تفعله، أنا أعتقد أننا لم نقم بفعله، وحتى القليل الذي يمكننا فعله تقاعسنا عنه، المسألة هذه تحتاج نقداً، وأنا تحدثت كثيراً وفي منابر مختلفة عن ذلك، ينبغي مراجعة التجربة بكل وضوح مع قوى المعارضة والمواطنين والمنسوبين والجماهير، جماهير الحركة السياسية في السودان تحتاج إلى مواجهة ونقد ذاتي، وتحتاج إلى تمليك الحقائق، تحتاج كذلك إلى أن تستصحبهم معها وتترك هذه الممارسات الفوقية وتشرك معها جماهيرها في الحلول، والمعارضة ما لم يكن لديها قول واضح في كل ما يهم هذه الجماهير ومشاركتها اليومية لها في هذه الهموم؛ فهي ستظل بعيدة عن جماهيرها وستظل ضعيفة التأثير، لأنه لا توجد معارضة أو قوى سياسية يمكن أن تكون قوية في غياب السند الجماهيري. { لكن هناك حديث عن أن تحالف جوبا (مات وشبع موتاً) وأن أهدافه كانت مرحلية وليست إستراتيجية.. لأي مدى يُعد هذا الحديث صحيحاً؟ - نعم.. التحالفات لا تتم على إستراتيجية لكن هي تحالفات مرحلية، أنا كما قلت لك من قبل؛ هي لم تكن تحالفات فكرية بل هي تحالفات حول برامج محددة، تحالف جوبا لم يمت.. موجود، لكن يمكن أن نصفه بالضعف في الأداء، ويمكن أن نصفه بأنه يحتاج إلى تطوير لمواجهة المشاكل الكبيرة المحدقة بالسودان، تحالف جوبا في ظل المرحلة الحساسة هذه من تاريخ السودان مطلوب منه أن يكون على قدر المهام الملقاة على عاتقه، وأن يلعب دوره المأمول منه في المرحلة القادمة. { ثمة أحزاب في التحالف لم تلتزم ببرنامجه ومقرراته، وبالذات في مسألة دخول الانتخابات؟ - نعم كما قلت لك إن التحالف فيه كثير من أوجه القصور والضعف، لكن هذا لم يجعلنا نيأس من أن هذا التحالف يمكن أن ينهض، ويمكن أن يواجه بشراسة، ويمكن أن يكون رأس الرمح في المعركة القادمة في سبيل فرض الحريات، ولحل مشكلة دارفور، وفي سبيل أن يظل السودان وطناً موحداً في كل القضايا الكبيرة التي تواجه السودان، أعتقد أنه مفروض أن نلعب الدور المرجو منا، وأن يلعب هذا التحالف الدور المرجو منه. { هناك حديث بدأ يرشح عن تكوين جبهة يسار متقدم، بموجبها يتم دمج حركة (حق) في قطاع الشمال بالحركة الشعبية، ما هي صحة هذا الحديث أو المعلومة؟ - قطاع الشمال في الحركة الشعبية لا يزال جزءاً ضمن التراتبية التنظيمية للحركة الشعبية لتحرير السودان، والحديث عنه بأي طريقة أخرى هو حديث مجاف للحقيقة، وحديث بعيد عن المنطق، حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) والحركة الشعبية هما قوتان موجودتان على الساحة السياسية السودانية، نعم تجمع بيننا إستراتيجيات كبيرة وتجمع بيننا رؤية واحدة، ولكننا بأي حال مختلفون في طرق الوصول إلى هذه الرؤى، ونحن بأي حال لم نكن تنظيماً واحداً، إذا كانت هناك أي خطوات لتحالفات أو أي خطوات لعمل سياسي مشترك فهذا سيكون معلناً وعلى الملأ، وكما اخترنا العمل تحت مسمياتنا وتحت أسمائنا كحركات، وفي لحظة أخرى أن نعمل عملاً مشتركاً تحت برامجنا وأهدافنا فإن أي عمل تحالفي مع أية جهة إن كانت الحركة الشعبية أو غيرها، سيكون معلناً، ولا يوجد شيء مخجل، بل على العكس، حركة (حق) برنامجها نفسه يقول إنها حركة مرحلية، حركة مرحلية لإنجاز برنامج سياسي محدد، هذا البرنامج السياسي المحدد يتم إنجازه بواسطة تحالفات كبيرة جداً، هذه التحالفات هي العمل الأساسي الذي يفترض أن يكون لحركة (حق)، وهذا جزء من برنامجنا وجزء من أشكال عملنا. { إذا صح التعبير، وقمنا بتقسيم القوى السياسية السودانية إلى قوى السودان الجديد وقوى السودان القديم، هل هناك إمكانية لقيام تحالف يضم قوى السودان الجديد؟ - نحن ساعون كما قلت لك، ومن أهم أهداف حركة (حق) أنها تسعى إلى توحيد حركات السودان الجديد، وتوحيد القوى الجديدة، وأعتقد أن الأمل موجود، وهذا سيكون محور عملنا في مقبل الأيام، أن ننجز مثل هذه التحالفات العظيمة التي تزيد حركة القوى الجديدة قوة، وتزيدها منعة، وتجعلها تنجز برامجها في أقل وقت ممكن. { مستقبل البلاد الآن أصبح مهدداً بالانقسام إلى عدة دول، ما هي رؤية حركة (حق) لمعالجة القضايا السودانية الراهنة لكي يخرج السودان إلى بر الأمان؟ - نحن وضعنا رؤية لخروج السودان إلى بر الأمان منذ توقيع نيفاشا، ومنذ مخاطبة مؤسس الحركة الخاتم عدلان للدكتور جون قرنق عقب التوقيع على الاتفاقية في رسالة شهيرة، نحن وضعنا رؤية للخروج بالسودان من مأزق الانفصال لأنه كان من الواضح أن الاتفاقية تضمنت حق تقرير المصير، وهذا الحق لم يأت بليل، وهذا الموضوع مفروض أنه لم يفاجئ أحداً من القوى السياسية، فقد كان واضحاً وموجوداً في صلب الاتفاقية عندما تم التوقيع عليها في 2005م، في ذلك الوقت نحن وضعنا رؤيتنا المتكاملة للخروج بالسودان من هذا المأزق، ولكن الحركة الشعبية لم تكن لديها الإمكانيات التي تنجز بها هذه الرؤية وهذا البرنامج لكي تخرج وتنجو بالبلاد من النفق المظلم. طرحنا الفكرة والرؤية لكل القوى السياسية الموجودة في السودان، وقلنا إن هذه المحطة تمر بشكل أساسي عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات العامة، وقلنا إن الانتخابات الموجودة في الشمال، التي جرت مؤخراً، لن تكون انتخابات وإن سميت بذلك، بل هي كانت استفتاء على وجود السودان أو زواله، على الوحدة أو الانفصال، على أن يكون أو لا يكون، وضعنا رؤية واضحة لتجنُّب هذه المآزق، ولكن لم ينجز هذا البرنامج لأنه حين وضعه كان يفترض ألا تحققه حركة (حق) وحدها، رؤيتنا كانت رؤية طرحناها للجميع لتحقيقها لأنه كما قلت لك إننا نواجه خصماً وعدواً في المعركة ليس حزباً سياسياً لكي ينازله حزب أو آخر، أو هكذا، فلذلك نحن وضعنا خطتنا ورؤيتنا بأنه لا توجد طريقة غير تحالف وتجمع كل هذه القوى السياسية لمواجهة مهددات الانفصال ولمواجهة الانتخابات العامة ولمواجهة مشكلة دارفور ولمواجهة مشكلة الحريات ولمواجهة تنفيذ الاتفاقية نفسه، وهذه الرؤية وضعناها بالكامل وكان اقتراحنا أن تشترك كل القوى السياسية فيها لتنفيذها، ولكن لأسباب معلومة للجميع وكل المراحل التي شهدناها، هذه الرؤية لم تجد من يصغي إليها، إلى أن حدث ما حدث. { قبل أن نشكرك، نفسح لك المجال لكلمة أخيرة؟ - أنا حقيقة أحيي وأشكر الإخوة في صحيفة (الأهرام اليوم) وأتمنى أن تصبح أحد المنابر المهنية المهمة لإعلاء الشأن الديمقراطي ولإعلاء قدسية الحريات، وأنا أعتقد أننا بحاجة في السودان إلى صحف ومنابر إعلامية تقف مواقف لا تقل عن مواقف القوى السياسية، وكما يقال إن الصحافة هي السلطة الرابعة، شكري الجزيل ل (الأهرام اليوم).