يبذل جهداً خرافياً ليقدم نفسه بشكل مغاير لحقيقته، يتجمل أمام أعين الناس ورؤسائه ومرؤسيه، يطلق تصرفات مقصودة لترسم صورة ما، ومن ثم يزحف بمن حوله نحوها، يخفي سوآته، ويرسل كلماته وابتساماته وضحكاته رتيبة وفاترة تفضح نفاقه حين تدركه نظرات فاحصة وذكية فيستسلم لها صاغراً وذليلاً ما دامت دائرتها ضيقة وقد اعتاد داخل هذه الدائرة المغلقة على أن يكون صادقاً مع نفسه وأمام تلك النظرات، يعترف بكل سوآته وعوراته ويطرق ذليلاً وحقيراً، يحتمل إهانة قاسية وكأنها موجهة لغريم له، يهبط بقيمته كإنسان إلى درك سحيق يرقد أسفل السفح في رضا تام، تحاصره قمم وشوامخ من الإباء والنخوة والمروءة والفضل والإيثار، في غمرة هذه المفارقة يتحرك الرجل بخصاله وصفاته الوضيعة تجاه هذه الخصال الحميدة وسط دهشة تلك النظرات، يخلط سوآته بكريم خصالهم، يحادثهم ويسر إليهم ويضحك صارخاً وهو يلتقط مزاحاً يمضي لآخر من مجموعة النظرات والخصال الحميدة، يفرض نفسه عليهم لا يلتفت لإشارات المنع والحرج التي تدوس على وجهه من لحظة لأخرى، اعتاد أن يكون صغيراً في مقام الكبار ورخيصاً على موائدهم وثقيلاً، يمكث الساعات ثم يخرج إلى عامة الناس في قريته يخلع ثوبه الحقيقي وينزع رأسه من إطراق طويل وممل سكبه أمام دائرة النظرات الفاحصة والخصال الحميدة، يخرج عليهم وكأنه صاحب الخصال، يدعي جلاله وجماله وسمو شأنه، يتصرف كما يتصرف الكبار مرغماً، يكسر تلقائية اعتادها حين تحمله نفسه صغيراً وتافهاً ورخيصاً وصادقاً مع حقيقته، يبدأ جولة من الجمال المصنوع وسط البسطاء.. يبدو رقيقاً ولين الجناح وطاهر اليد واللسان وزاهداً وعالماً وفقيهاً وناقداً فنياً وسياسياً عركته الأيام والليالي والسنين، يرسل كلماته باردة وكأنها شعارات تستقر إلى نفوس قومه ومعارفه ورفاقه تتجاذبهم موجة من الإعجاب والثناء برجل هبط عليهم من السماء، فتضيع ما بين السماء والسفح حقيقة الرجل وهو يقطع هذه المسافة متجملاً. يدرك الرجل المتجمل أن الحياة جزر منفصلة عن بعضها البعض وأنها دوائر مغلقة وأن عالم الغيب سيستر رحلة الجمال التي يمضي فيها وأن الهوة لن تتجسر بين عالم النظرات الفاحصة وعالم البسطاء وسيكون جميلاً هنا وحقيراً هناك وهي معادلته السحرية واكتشافه العظيم وعليه أن يقبل بهذه المفارقة دون أن تتجه طموحاته نحو إصلاح حاله وتشذيب نفسه وكمال خصاله فهي رحلة عسيرة ومكلفة تبحر عكس تيار فطرته، وكل ما يشغل بال الرجل هو خسارته لعالم النظرات الفاحصة واكتشاف حقيقته وسوآته وعوراته وتواضع خصاله وصفاته وقد كانت قدراته أكبر من نظراتهم فانطلى عليهم جماله قبل أن يدركوا قبحه فرجموه في دواخلهم وأمسكوا عنه ولكنه يفلت بقدرات أخرى أبقت عليه ثقيلاً ورخيصاً و«جلدو طخين». هي رحلة النفاق التي اتسعت وسط الناس وتضاعف جمهورها وهو يظهر خلاف ما يبطن تقودهم سارية المصالح التي أضحت لساناً ومواقف تمشي بين الناس وهي التي تجبرك لتكذب وتحجب حتى لا تمسها فينهار سقف الحقيقة على رأسك، حتى أضحت الحكمة هي رعاية مصالحك مهما كلفك ذلك من نفاق أو صمت «النفاق السالب» وهذا ما تفعله الدول حتى في أوروبا أمام القطبية الوحيدة أمريكا وهي تتجمل وهم يدركون قبحها وما يفعله البسطاء في مجتمعاتنا أمام السلطة الاجتماعية المتوارثة وهي تتجمل رغم قبحها وما بين الدول الأوروبية المنافقة والبسطاء المنافقين تطول القائمة أمام جمال زائف..