{ يقول الشاعر الإنجليزي (If the winter of sadness came the spring would never be far) (إذا كان شتاء الأحزان قد جاء فليس الربيع ببعيد).. وليم جيمس مؤسس علم النفس التطبيقي قال ذات مرة ( إن الله يغفر لنا أخطاءنا.. لكن جهازنا العصبي لا يغفرها أبداً).. وأنا قد أعجبتني هذه الكلمات التي قرأتها في سياق حوار مثير للتأمل عن الألم في قصة أمريكية قصيرة: قال الرجل الذي يبلغ من العمر (45) عاماً - ويعيش وحيداً بعد أن هجرته زوجته مع صديق لها - للطبيب النفسي الذي يعالجه: (إنني أتألم.. أتذكر لسعة القدر والخيانة فأبكي.. أتذكر وحشة الليل ووحدتي فيه فأبكي.. أخاف من الظلام وأشعر بالضعف والملل والهوان فيزداد حزني وألمي.. أريد أن أتخلص من الألم وأرجع إلي حياتي السابقة). فيقول له الطبيب في هدوء: (ليس من المفيد لك أن «تبتسر» هذا الألم على الفور وتتخلص منه قبل أن يستكمل دورته الطبيعية ويزول تدريجياً مع الأيام، بل إنك في حاجة لأن تقبل به كحقيقة من حقائق الحياة كما تقبل بغيره منها). فقال المريض: (أنا لا أحتاج إلى الألم.. وإنما إلى البرء منه لأعيش حياتي وأواصل الطريق). ليقول له الطبيب: (لا أحد منا يحتاج إلى الألم بالمعنى الحرفي للعبارة، لكننا حين يصادفنا من أحداث الحياة ما يدعو إلى التألم.. لابد أن نتألم.. وأن نقبل بهذا الألم ونتوافق معه إلى أن يرحل عنا بسلام، ولو لم نفعل ذلك لحق لنا أن نشعر بالقلق على سلامة مشاعرنا وأجهزة استقبالنا وقوانا العقلية، فالعقلاء والمتزنون نفسياً هم وحدهم الذين يتألمون لما يستحق أن يتألموا به، والمضطربون عقلياً أو نفسياً هم وحدهم الذين لا يتألمون لأحداث الحياة المحزنة ولا يحزنون في مواضع الحزن ولا يفرحون في المناسبات المبهجة، ولهذا أنا أدعوك أن تقبل هذا الألم وتصبر عليه حتى تنقضي فترة حضانته الطبيعية لديك ثم يزول ببطء ويتلاشى كما تزول آلام الجسد تدريجياً مع اضطراد الشفاء.. وكلما كانت إرادتنا قوية في التجاوز عن الآلام والأحزان وساعدنا أنفسنا على تقبلها وفهمها كلما تسارعت خطواتنا علي طريق النجاة منها). { ويؤيد هذا المضمون ما قاله العالم شيرنغنتون Sherrington في فيزيلوجيا الألم Physiology of pain وقد عرف الألم قائلاً: (Pain is the physical adjunct of an imperative protective reflex) ومعناه أن الألم هو ملحق فيزيائي لمنعكس وقائي إلزامي. { وهناك عزيزي القارئ نظرية قام حولها الكثير من النزاع أتي بها الفيلسوف أبيقور وعلماء الأخلاق قائلين: إن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئاً غيرها، ويهرب من الألم، ولا يهرب من شيء غيره، وأنه حين يفر من لذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، أو يطلب بألمه لذة أكبر مما يتحمل والمسألة (دور).. و(الدور) عند المناطقة توقف كل من الشيئين على الآخر، لذلك قال الشاعر القديم: مسألة الدور جرت بيني وبين من أُحِب لولا مشيبي ما جفا لولا جفاه لم أُشِب ولندع هذا كله ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، كما يقول أستاذ الأجيال أحمد أمين: نجد أننا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وان فضل الألم على العالم أكبر من فضل اللذة.. وهذا واضح وجلي في عالم الأدب.. أليس خيره وأكثره وليد الألم؟ فلو كان مكان مجنون ليلي عاقل ليلي لكان كسائر العقلاء، وإنما فضل المجنون لأن نفسه كانت أشد حساً وأكثر ألماً وهكذا الحال مع أفضل شاعر عربي «المتنبئ» فلولا الألم من أن يعد من سقط المتاع ما كان شعره الخالد ولقنع بالبقاء ببلدته وأصبح سقاءً كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر. وكذلك (طه حسين) لولا ألم آفة العمى التي لازمته منذ صباه لما كان (طه حسين) الذي لا تكاد الآن تخلو جامعة أجنبية من رسالة دكتوراه عنه.. ومنذ القدم خلق الإنسان وخلقت معه مصائبه.. وحتى لتوقع الملائكة منه ذلك قبل أن يخلق فقالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فكانت المصائب ملازمة له وكأنها عنصر مهم من عناصر وجوده.. فلذا يجد أن نجابه الألم والحزن بما كان يفعله بحارة الزمن القديم حينما يواجهون حوتا فيلهونه عن مهاجمة السفينة بإلقاء قارب فارغ يشغلونه به حتى يتم اقتناصه.. والقارب الفارغ هو (العمل) والانهماك فيه بشدة كما أثبتت ذلك الدراسات النفسية الحديثة.. وفي كل مرة حينما تدلهم الحياة بشيء من منقصاتها وكروبها أستعيد كلمة أمير القصة القصيرة الروسي الشهير (أنطون تيشخوف) التي يقول فيها: (لو كل إنسان فعل ما في وسعه لتجميل رقعة الأرض التي يقف عليها لأصبح كوكبنا فتنة للأنظار).. وتجميل رقعة الأرض التي يقف عليها الإنسان لا يقتصر فقط علي تجميل المكان.. وإنما يتعداه إلى تجميل النفوس ومحاولة تخفيف أسباب الشقاء الإنساني باجتثاث الألم من الآخرين قبل أنفسنا. وفي الختام حتى الملتقي أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء.