بادئ ذي بدء تجدد «الأهرام اليوم» تعازيها الحارة في فقد البلاد الجلل أستاذ الأجيال والخبير القانوني والدستوري مولانا ميرغني النصري عضو مجلس رأس الدولة السابق، نترحم عليه فهو أحد رجال القانون بالسودان قضى قرابة الأربعين سنة في مهنة القانون انتهت به الى أن أصبح نقيباً للمحامين السودانيين لأكثر من عشر سنوات وأمضى أكثر من أربعين سنة في عالم السياسة انتهت به الى أن أصبح رجل دولة حيث تولى عضوية مجلس رئاسة الدولة بعد منتصف فترة الديمقراطية الثالثة وحتى نهاياتها. كل هذه السنوات والخبرات تؤكد الارتباط الوثيق بين مهنة القانون ومهنة السياسية؛ فالرجل كان منارة للباحثين والدارسين وطلاب علم القانون الدستوري فهو بحق رجل دولة ورجل سياسة بذل جهده وقلمه وفكره في كل ما يخص هموم دنيا فقه السياسة وكان حتى آخر أيامه أحد أبرز الداعين للتطبيق السليم للديمقراطية في هذا العالم والى تجديد الملكة السياسية والعقلية السياسية والممارسة السياسية، كيف لا وهو صاحب كتاب (مبادئ القانون الدستوري والتجربة الديمقراطية في السودان). لم انقطع يوماً عن زيارته في منزله العامر الذي ينضح بالفكر والعلم ورجاحة العقل والكرم السوداني النبيل، لم نقصده في قضية وطنية إلا وجاوب بشجاعة معهودة فيه، زرته في منتصف شهر رمضان لتحديد موعد للحوار بعد عطلة عيد الفطر فقبل وتحدد الموعد، كان هاشاً باشاً كعادته كبيراً في كل شيء وحين تلتقيه يطمئن له قلبك للوطنية الخالصة المعتقة بالنضال والشموخ والشمم. حول هذه المضامين أجرينا معه حواراً مطولاً قبل أسبوع من رحيله، ننشره عبر حلقات حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: { ماذا تقول في الوحدة التي يبحث الجميع عنها الآن كأنها شيئ مفقود؟ في سياق الحديث عن الوحدة لابد لنا من أن نقدم نبذة تعريفية عن السودان نفسه الذي نريده أن يتوحد، فإن لم يكن للسودان موقع كبير في العالم يصبح بالتالي ليس هناك لزوم للنقاش. فالسودان هو جغرافية سياسية متربعة على مليون ميل مربع في قلب أفريقيا وهو بوابة حضارية لأفريقيا، ومن هنا يحتل السودان هذا المركز الجغرافي العظيم، ولهذا لابد إذن من النظرة الموضوعية والضرورية في هذا الأفق، هذا بالإضافة الى أن السودان هو جغرافية سياسية محاطة بجوار جغرافي وإستراتيجي من تسع دول مستقلة وذات سيادة مما يؤثر على السودان في ما يتعلق بالتوترات والضغوطات في هذا العالم من ناحية جغرافية وإستراتيجية. والسودان كذلك رغم تاريخه هو عظيم من حيث تاريخ شعوب المنطقة؛ فتاريخ السودان بدأ قبل التاريخ، فالسودان صار سوداناً ومتوحداً منذ العام 750 قبل الميلاد، أي أن السودان وُجد قبل الميلاد وهذا يطرح قضية مهمة هي أن السودان لم يأتِ في العام 1956م، بل جاء منذ قبل الميلاد. فالسودان إذاً له بُعد تاريخي يجب أن يؤخذ في الاعتبار في حالة المطالبة بالمحافظة على وحدته. كذلك السودان من حيث الحضارة أيضاً كان بوابة للحضارة منذ قبل التاريخ، وأخذ الإيجابيات من كل الحضارات، فهو له بُعد حضاري عظيم انفتح على العالم ولاتزال هذه الأشياء موجودة. { آخر أقوال منفصلة منسوبة لبعض عناصر الحركة الشعبية كانت تقول إننا لا نقبل بأن يحترق الجنوب لأجل أن تكون أفريقيا موحدة، والقصد هنا بالطبع الوقوف الأفريقي مع وحدة السودان، كيف تنظر لمثل هذه الأقوال؟ أقول لولا أفريقيا لما كان هناك وجود للجنوب؛ فوجود الجنوبيين ككيان أفريقي في قارة أفريقية وحدتها هي الأساس، وهذا هو الشيء المطلوب ذلك في أن تكون جزءاً من كيان كبير وهذا هو أصل وجوهر ومضمون التاريخ. { أن تكون مواطناً أول أو ثانياً أو ثالثاً، هل هذا يتحقق بالانفصال؟ لا بالطبع؛ فأكثر مسألة تجاوزها العالم الآن هي تصنيفات مواطن من الدرجة الأولى والثانية، فهذا التقسيم تجاوزه التاريخ وتجاوزته الحضارة الحديثة؛ فنيلسون مانديلا في العهد العنصري كان صفراً في المواطنة واليوم صار رقماً رمزياً بالقيادة الوطنية، وعالمياً أيضاً أصبح من الدرجة الأولى، فالمسألة هي تأتي من السياسيين أنفسهم، فإذا ما ارتفع السياسي نضالياً وسانده شعبه نضالياً يصبح من الدرجة الأولى وأبعد من ذلك، ولنا في العالم اليوم شواهد كثيرة على ذلك، وبالنظر كما قلنا لنيلسون مانديلا كيف كان في النظام العنصري وكيف صار الآن. { معنى قولك هذا إن النضال السياسي هو المهم وأن الانفصال ليس هو الروشتة الطبية والوصفة التي تقرر درجات المواطنة؟ بالطبع، وهذا الموضوع يعتمد على غفلة الحركات السياسية أو وعيها، فوعيها يؤدي الى انتصارها، ولهذا رأينا كيف أن المرارات التي كانت في جنوب أفريقيا وفي أمريكا نفسها، التي جاءت بأوباما رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية، قد انقلبت الى انتصارات، والعكس إن المرارات سلبياً تؤدي الى الانهيار والانحدار، وعليه فعندما يدعي المناضلون في الحركة الشعبية أنهم يقصدون بالانفصال الانتصار لأنفسهم فحينها هم مخطئون؛ لأن الانتصار يأتي بالنضال؛ ففي ال(50) سنة الماضية أين هذا النضال؟ ولماذا النضال الذي جاء بهم لم يستطع أن يحولهم الى أبطال مثل نيلسون مانديلا وأوباما؟ والسؤال الجوهري الذي نطرحه على كل منسوبي الحركة الشعبية هو: لماذا لم يقودكم النضال الى أن تصبحوا مثل هؤلاء الأبطال في العالم، ما السبب الذي منعكم من ذلك؟ أي من أن تصلوا الى القمة عبر النضال السياسي وليس عبر الانفصال. فالانفصال هو دعوة الشخص غير الواثق غير المناضل لأن الشخصية الواثقة والمناضلة هي التي ترتفع بنفسها فوق المرارات وتخلق منها انتصارات. فهم لم يرتفعوا بنضالهم الى المستوى الذي يمكنهم من الانتصارات، فأهل الحركة الشعبية يريدون أن يتجهوا بالسودان الى المرحلة التي تجعلهم يدعون بأنهم مظلومون ولهم مرارات، وهناك في العالم أناس لهم مرارات وصاروا بعد ذلك من أرفع قيادات العالم، فكل الدول التي استقلت وانتصرت في ظروفها العالمية لم تصل لتوتر. { لماذا عجز حتى الآن السياسيون اليساريون الشماليون الموجودون داخل الحركة الشعبية عن توجيه جميع عناصر الحركة في اتجاه الوحدة؟ حقيقةً السياسيون الشماليون داخل الحركة الى الآن موقفهم غير واضح وغير جلي؛ فهم دخلوا الحركة الشعبية على أساس الموقف الأيديولوجي للحركة التي كان قائدها الراحل جون قرنق. وقائد هذه الحركة لم يتحدث يوماً عن انفصال ولا غيره؛ فهو كان يتحدث فقط عن سودان جديد، والسودان موجود ولكن يريدونه أن يصبح جديداً، أي بقيم جديدة وأبعاد أيضاً جديدة ومطلوبات. { بوصفك خبيراً دستورياً بماذا تنصح مفوضية الاستفتاء في هذه المرحلة؟ أنصح المفوضية والمراقبة الدولية بالسير في اتجاهين، أولهما: أن تُمكّن الأطراف جميعاً من أن تجد طريقها إلى وجدان المواطن العادي الجنوبي؛ وذلك بإتاحة وتمكين الجميع من فرص المخاطبة الوجدانية هنا. فالمواطن الجنوبي العادي هو صاحب القضية الرئيسية، فما لم يحدث ذلك فسيكون هناك تدهور في موقف الوحدة. الشيء الثاني: هو ضرورة توافر عناصر النزاهة والحرية والشفافية في عملية الاستفتاء؛ لأنه ما لم يحدث ذلك فإن الحركة الشعبية بنفوذها، وهو ليس قوياً، يمكن مع كل ذلك أن تبعثر الموقف كله في آحادية للتصرف من أجل الانفصال. وفي هذه الأثناء من المطلوبات المهمة هي انطلاقة جبهة وحدوية من الشمال والجنوب ذات استقلالية كاملة من القوى السياسية جميعها. { هل تنصح بتأجيل موعد الاستفتاء؟ هذه المسألة واردة، ولكن في الظروف الحالية الراهنة المشحونة بالتوتر والمليئة بالانهيار الفكري والسياسي لا أنصح بالتأجيل؛ فرغم أن المدة الزمنية قليلة إلا أننا إذا اتبعنا الطرق الصحيحة يمكن أن نستعجل الوحدة ويمكن أن تحدث، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق البيان الوصفي، فالبيان بالوصف هو المطلوب؛ ذلك بأن نصف أهمية الوحدة وضرورتها ومستقبلها، وهذه المهمة تدخل فيها بصورة كبيرة عملية الإعلام بكل وسائطه، والمستوى الإعلامي في هذه الناحية يسير بصورة طيبة ولكن يجب أن يكون أكثر كثافة ويخاطب وجدان وضمير المواطن الجنوبي العادي. وبعد ذلك يأتي البيان بالعمل، وسبق أن حدثت نماذج وحدوية في الشمال وواحدة منها مدرسة رومبيك في رفاعة، فمثل هذا النموذج يمكن أخذه للجنوب لعكس الصورة التي تمت في عملية التجانس، وبالتالي لابد من نشر الوحدة عن طريق البيان بالعمل، وكذلك لابد من نشر ثقافة المثل الأعلى للوحدة وهذه الناحية مهمة، فالعالم الآن جميعه يرتفع الى الوحدة سواء كانت إقليمية أو دولية أو الوحدة الإنسانية، فهذه جميعها هي ثقافة المستقبل التي يتوجب علينا نشرها. وأعظم مثال هنا يمكن أن نسلط الضوء عليه هي الوحدة الألمانية، فهي كانت، ولازالت، أعظم وحدة حدثت في عالمنا الحديث؛ فبعد الحرب العالمية الثانية في العام 1945م كانت ألمانيا مقسمة الى ثلاثة قطاعات، وبعد الحرب مباشرة بدأت القيادة السياسية والحزبية الألمانية تعمل على أساس توحيد المانيا، وفعلاً استجابت أمريكا وبريطانيا في أن توحد المانيا وهذا كان سنة 1949م عندما وافقوا على استقلال ألمانيا من بريطانيا وأمريكا، ولكن أخذوا عهداً على الساسة الألمان بأن لا يدعوا لوحدة ألمانيا الاتحادية وألمانياالشرقية؛ لأنه في ذاك الزمان كان الجو السياسي ساخناً ولربما لو حدثت تلك الدعوة آنذاك لكانت قد أدت الى حرب حسب توجس الأمريكان والبريطانيين، فتجمعت القوى السياسية الألمانية وبدأت تفكر في كيفية توحيد ألمانيا وسألوا أنفسهم كثيراً في ظل العهد الذي عاهدوه للأمريكان والبريطانيين فابتكروا طريقة ذكية لتحقيق الوحدة بصورة موضوعية وكانت هذه الطريقة هي تبني الدعوة لوحدة أوروبا، مع العلم أن وحدة أوروبا ما كانت لتتم بغير وحدة ألمانيا، وبالفعل جهروا بوحدة أوروبا وتحققت، وساروا في وحدتهم وتحققت بانهيار جدار برلين الذي نتمناه أن يكون إشارة تؤدي الى انهيار جدار الانفصال في السودان، فعلى ذاك النمط نريد أن تمضي وتسير الأشياء.