استيقظ من نومه وبه شيء من الذهول، مع خدر وفتور يغطي كل أجزاء جسمه المترهل، ليجد نفسه على حالة لم يستبنها بصورة محددة وقاطعة، فلا هو فزع ولا هو مطمئن لذاته، فحاول جاهداً أن يستبدل معالم وضعه الصباحي المعتاد دون جدوى، أرق وفتور وسهاد وتفكير مشتت، فعمد الى هدوء مصطنع مغمضاً عينيه كي يريح أعصابه المتوترة المشدودة من أثر ذلك الهاجس الذي أقلقه ليلاً، فتثاءب ببطء وماداً أرجله فارداً ما بين يديه ماطاً لجسمه بكسل واضح جاعلاً رأسه يغوص داخل مخدته الصغيرة »الله وحده يعلم ما بداخلها أو تحتويه«، فجال ببصره بعينين شبه مغمضتين أرجاء غرفته ماسحاً لها من أسفل الى أعلى بإمتعاض واضح على ملامحه. فابتسم ساخراً من حاله بفتور وإزدراء لهذه الصورة المقلوبة التي لازمته طوال إقامته بهذه الغرفة الوحيدة، فماتت ابتسامته بأسرع مما يتوقع بين شفتيه التي شهدتا تشققاً واضحاً فشلت كل خلطاته الخاصة أن تعالجهما، فخال له أنه ليس من حقة أن يبتسم أو بالأحرى ليس هناك ما يدعوه ويحفزه للابتسام. عندما لاحت له إلتفاتة ناحية المشرق لمح ضوء الشمس ينسل له من ثغب يدركه بدراية تامة، فلم يخالجه أدنى شك بأن الساعة الآن تجاوزت الساعة السابعة صباحاً بخمس عشرة دقيقة، فليس له ساعة حائط وطوال حياته المربوكة لم يتشرف ولم يكن من حملة ساعات المعاصم، فكل ما في الأمر بأن هنالك ثغوبا متعددة يتسلل عبرها الضوء كلما ارتفعت الشمس الى كبد السماء أو بدأت رحلة الأفول ومالت ناحية الغروب. فكان يضبط زمنه على أثر ضوء الشمس الذي ينسل اليه من كل أرجاء غرفته العتيقة، فيعلن وقتها انحيازه التام لتوقيته المحلي ويطمئن له بقلب قوي. فأكثر ما كان يزعجه ويخرجه بعيداً من دائرة شبكة توقيته المحلي ويبعثر مزاجه ويهز ثقته بنفسه، عندما تأتي الفترة المسائية ويحل الظلام، فيختلط عليه الأمر تماماً وقتذاك ويفشل في أن يميز ما بين التاسعة مساءً والثانية صباحاً، فالليل هاجساً عنده، كيف لا وفيه تزداد مصائب وحدته وتكثر كوابيسه فكان يفكر في الزواج ليلاً ويغض الطرف عن الفكرة نهاراً. مفزوعاً وقد اعتاد أن يصحو على هذه الحالة، ويصحو عادة عن طريق الصدفة فهو لا يمتهن عملاً بعينه، فحاول أن يبارح فراشه فوجد نفسه متعباً منهوكاً خائرة قواه، فوضع يديه ذات الأكف العريضة المخشوشنة تحت رأسه الضخم مستلقياً على ظهره خالفاً إحدى رجليه على الأخرى بعد أن عقد ركبته وسرح بعيداً. فنظر بوقاحة شديدة لملاءته المكومة الى جانبه، فهو لا يعرف لها لونا محددا منذ فترة ليست بالقصيرة ولا يذكر الكيفية التي امتلكها بها وكيف آلت اليه، ولكنه يعلم بأن فترة صلاحيتها قد انتهت. رفض مع سبق الإصرار أن يحيلها للمعاش لكنه اليوم أكثر قناعة بأنه سيحيلها للصالح العام متى ما وجد البديل المناسب عسى ولعل أن ينتفع بها شخص بعده، ولو أتيحت لأي شخص فرصة مشاهدتها لأشفق عليها من الحالة التي أوصلها لها ولراهن أنها من عجائب الدنيا السبع أو قل ثامن العجائب، خاصة أن له أقدام مهملة كثيرة التشقق فكان يجد مشقة وصعوبة بالغة في التعامل مع ملاءته أن كان الجو بارداً. مرة أخرى رفع نظره الى سقف الغرفة وهو مازال مستلقياً على ظهره إلا أنه مد رجليه متجاوزاً حدود أطراف لحافه القصير، فوقع بصره على صرصار بنى له بيتاً من الطين اللاذب بإتقان شديد على سقف غرفته المتهالكة، خيل له بأن هذا الصرصار أوفر منه حظاً من حيث السكن المريح فرآه بأم عينيه يدخل الى بيته من مداخل متعددة وقد تكون له زوجة وأولاد ونسابة. فحاول أن يقارن بينه وبين ذلكم الصرصار المحظوظ فرأى من السخف بأن يتمادى في هذه المقارنة فالنتيجة محسومة لصالح الأخير فاستحى من أن يجنح به خياله بعيداً مصوراً له هذا المآل فيكفيه ما به من إحباطات. فسأل نفسه سراً ما حقيقة الأمر وذلك الشيء الذي أقلق مضجعه ليلاً وجعله يصحو من نومه فزعاً على تلك الحالة الآنفة الذكر، وهنا تذكر بأن البارحة قد تغمسه كابوسا كالعادة في كل ليلة يغيب عنها البدر، فاجتهد أن ينضم تلك الأحداث المتلاحقة التي بدأت تتزاحم في مخيلته ذات الأفق الضيق، فتذكر بأن لصاً عبيطاً سطاً عليه عن طريق الخطأ فنزل عنده فبحث في أرجاء الغرفة الخالية عله يظفر بشيء ذا جدوى ونفع فلم يعثر على أي شيء ذا قيمة فنظر اليه اللص بدهشة وشماتة وشفقة وبادله هو بنظر قوامها الاستخفاف باللص، فلذلك لم يتحرك وبات ساكناً وهو الذي بمقدوره دحره أن دعى داعي النزال وأن يلقنه درساً في احترافية السرقة الليلية، لكنه رأى أنه من العقلانية بأن لا يدخل نفسه في معركة من غير معترك ولسان حاله يقول بأن هذا اللص به شيء من الغباء البليد فليس هنالك ثمة شيء ذو قيمة يخشى عليه باستثناء حذاءه الذي يقبع تحت محجرة وهو غير صالح لاستعمال أي شخص غيره لضخامة رجله وقد صنعه بنفسه قبل سنوات خلت. عندما لم يجد ذلك اللص شيئاً بدأ يدنو منه شيئاً فشيئاً، وهنا استشعر بالخطر القادم ليس على نفسه إنما هو لديه ملاءة عليه الجهاد من أجلها والموت دونها يحسبه شهادة لأنه، كان يفترشها مرة ويلتحفها مرات ومتلفحاً بها ساعات النهار عندما تأتي دورة غسيل ملابسه الأربعينية. فعندما هب مزمجراً للدفاع عنها وحمايتها من ذلك اللص الأبله وجد نفسه على تلك الحالة!! للمرة الثانية حاول أن يبتسم ولكن ها هي الابتسامة تضن عليه وترفض أن ترتسم على ملامحه أو أن تأخذ طريقها الى (شفايفه) أن كان ما عنده يسمى (شفايف)، فلم يبالِ أو يكترث لذلك الاحباط يلازمه كظله. فأومأ برأسه كأن شيئاً لم يكن ساخراً من نفسه هازئاً بها فتدلى من محجره وهو يكثر من التثاؤب بعينين شبه مغمضين فاردا ذراعياً حتى كادتا أن تلامس الجدارين وتلفت يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شيء مفقود وانحنى ناحية الأرض بفتور ليلتقط شيئاً لعله مسواكه فيما يبدو أن شيئا من هذا القبيل.