ليس الشيخ (الترابي) قديساً، لكنه بالضرورة واحد من العلامات الفارقة في عالم السياسة العربية والأفريقية قبل السودانية، كما (توني سوبرانو) في فيلم (العراب) - العلامة الفارقة في السينما الأمريكية والإيطالية على السواء - لكنك لا تملك خياراً حيال أن تكون ضد اعتقاله، مهما بلغ تطرفه في الفكر والقول، فحينما تكون أنت ضد فكرة الاعتقال والرقابة "الما قبلية" على القول والفعل لا تحددها لنفسك وتتركها حبلاً غير مشدود على غارب رحال الآخرين! وآخر الأخبار تحمل بشرى خروجه من المعتقل؛ ولو أن المعتقل كلمة أكبر من الوضع الذي هو فيه، ربما تصلح كلمة التحفظ الأمني أكثر. ليس لانتهاء المدة التي طال غيابه فيها ما يقارب الشهرين؛ لكني أعتقد أنه لأن الأوضاع الآن لا تسمح بوضع قفل على باب. فالتوترات العربية هنا وهناك، بجانب التهديدات الإلكترونية المغلفة ب"كريمة" المعارضة للخروج المعلن مسبقاً للشارع للاحتجاج والتي يقال إنها لم تمنح ترخيصاً بذلك - سبحان مغير المظاهرات التي لم يكن يسبقها موعد غرام وانتقام! - بجانب الوقت الذي لم يعد في صالح الحكومة الحالية والتي تتهيأ جسدياً للانتقال إلى مرحلة جديدة لم تلج ملامحها بعد، كل هذه أسباب تبشر بفتح الباب لدخول النهار على الرجل خارج ليل تحفظه المهيب. إن الهيبة التي تضاف إلى المعتقل أو المعارض - أياً كان - بغض البصر والبصيرة عن تأريخ وحركات وتجاوزت ذاك المعارض؛ تضيف إلى رصيده نقاطاً عدة تحسن موقفه كلاعب هجوم ضد فريق الحكومة؛ لهذا ربما نكتب في شأن الشيخ الكبير (الترابي)، فاختلاف الآراء السياسية بيننا كجيل لا يفسد لود الفكر والتأدب وعامل السن قضية. ولأن قضيتنا في السودان كما نراها ببساطة لم تعد في دخول شيخ (الترابي) أو خروجه من تحفظ أمني ولن تنتهي بمفاوضات المعارضة أو هيجان شهوة التجمع الوطني للسلطة أو مغامرات السيد الإمام وخطاباته، إنها تبقى فقط في مدى انفتاح هذه الحكومة تجاه الحقوق الأولية للإنسان، أياً كان، موالياً أم معارضاً أم مواطناً عادياً، وبالأخص الأخير! فآخر صيحات الموضة العالمية السياسية أن ترتدي جلد معارضك كي تعرف كيف يفكر وتحتفظ بحياته التي هي داخل جلده لمدة أطول فيك. كما فكرة تغيير جلد الأفاعي لكن بطريقة عكسية! ما لم تكن المعارضة مسلحة، فذاك يعتبر مهدداً أمنياً حقيقياً يوجب التحفظ وإغلاق الباب جيداً! لكن إذا كانت معارضة محصورة داخل قوس الكلمات والخطب الرفيعة والخطابات فلتترك ميسورة لحال طريقها فما كانت يوماً الكلمات تخصب ولا تقتل؛ وإلا كانت الشوارع ممتلئة بجثث القتلى والأطفال! إشارة لقول شبيه لفولتير. (في إحدى فواتير أمن مايو، أنه خرجت أغنية تندد بين مقطوعاتها برأس القائد الراحل - عليه الرحمة - وهاج الأمن على الشاعر والمغني والشعب، لكن دهاءه كقائد جعله ينادي بإطلاقها يومياً عبر الراديو بديلاً لمنعها، فملها الناس وتركوها بدلاً من تناولها عصيراً سرياً يمنحهم سكريات المعارضة فتزيدهم طاقة). وطاقة الحكومة الآن ضعيفة أكثر من أي وقت مضى، ليس لأن المعارضة لبست جلدها المنسلخ قبل شهور بانفصال الجنوب عن مشيمة الوطن والحكم، لكن لأن السباقات الكبيرة التي دخلتها في كافة مجالات الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحربي والداخلي، ناهيك عن الخارجي، قللت من مخزونها الاستراتيجي لطاقتها الشمسية التي كانت تستمدها من ضوء الفكر الإسلامي السليم وليس المحرّف، مواكبة الحاجات والأغراض الخاصة أو المنحرف لطريق الشهوات الانتقامية والعنصرية الخاصة أيضاً! وأيضاً طاقة المعارضة ضعيفة الآن أكثر من أي وقت مضى - آها دي بقا عشان جلدها مسلوخ ومدبوغ وملبوس!. إن اللبس الذي ينتجه دخول الشيخ (الترابي) كل مرة وخروجه يضعف كذلك طاقتنا العقلية ويقارب بنا من مرحلة الجنون المؤقت بزمان الدخول والخروج، ففيم أدخل وفيم أخرج؟ لا نعرف! لكن ما أعرفه يقيناً أنه سيأتي زمان ليس ببعيد يكون فيه وجود فرد، أياً كان داخل معتقل أو تحفظ أمني، مدعاة للتحقيق عمّن هذا السجين؟ وكيف أو لماذا دخل؟!