وكانت المدارس الحكومية آنذاك على فقرها ترتب لطلابها مواعيد الصحة من كل شهر - وأحيانا كل ثلاثة أشهر - ليأتي الأطباء والطبيبات والممرضات يتبخترون بأبيض معاطفهم النظيفة كما ضمائرهم المهنية يوزعون على أيدي أحلامنا الصغيرة حلوى الأمنيات أن نكونهم ذات يوم ما. يفرشون على أرض جوّنا الطفولي ملاءات مشغولة بزهور المرح والفرح بيوم الصحة الذي في غالبه يوم فارغ من الحصص الدراسية المملة، ومن نهرات المعلمات المحرجة كحرارة نهارات أبريل ومن فروض الواجبات المدرسية المنزلية المرهقة. وكانت الأمهات مرهقات من الغسيل اليومي ينتظرن كذلك (يوم الصحة) بشوق خفي ويدخرن جامعات قطع الصابون الصغيرة (البروة) يغلينها على نار تفتيش اليوم، يسكبنها على (طشت) الإبادة الجمالية للأوساخ فيخرج بياض الزي المدرسي ناصعاًَ جديداً مرة أخرى، تبحث أصابعهن المنهكة عن الذرات المختبئة بين خيوط اللون منذ أوان فوضى لعب (البربرة) و(الصجّ) و(نط الحبل) حسنا، و(تمبل بي)، لعبة الاستلقاء والرفع الجماعي لثقل البنت بالتناوب مع أهزوجة قوية من أغنية هي في أصلها من دولة مجاورة. يخرجنها بالتقريض المثابر فتعود نظيفة، نعم إنها قليلاً متعبة وباهتة لكنها ناصعة نظيفة تستحق صباح يوم الصحة.. وذات اليوم الذي يخص الطالبات والطلاب يهم المعلمات والمعلمون أيضا، ينتقون فيه أبيض الثياب برائحة الظهرة الزرقاء الواضحة على طابور الصباح بجانب روائحهنّ المحلية الحلوة والقمصان الملبوسة برفق وحذر لتثبيت القائمة الأساسية على جانبيه، فيبدو الأستاذ خارجاً لتوه من (المكوجي) وأكثر الأحذية لمعاناً وبريقاً حتى ولو كانت معادة التخييط مرتين..! فالمهم هو المظهر الخارجي للمعلم في يوم الصحة.. كي لا يناله وسخ حديث غير مستحب من قائد فريق التفتيش.. وتفتشنا أيدي المعلمات بداية من الرأس تبحث بقلق عن شيء غير منظور - عرفنا لاحقا أنه القملّ! - ثم في خارج الملابس المدرسية تنقب عن خفي ينقلك من صف الطابور النظيف الى صف الطابور المتسخ - وكم كنا نتجنبه - ثم يفاجئننا برفع أسفل فساتيننا الصغيرة سريعا للبحث عن ماخفي داخليا أكثر! يكشفن عن أجسادنا الخجولة من الصحة والعارية من كذب الأزياء ونفاق المظاهر وفوضى الشهوات.. يفضحن أرجلنا النحيلة ذات الشرابات البيضاء والباتات الملونة - بحسب مزاج محفظة الوالد - والتي تزيدها نظافة اليوم سواداً وضعفاً! يحشرن أنوفهنّ الحساسة في جلدنا للبحث عن رائحة كريهة، ولا يجدنّ الا آثار أصابع الأمهات الممسوحة بقطعة من (الفرير دمور) - المسخ الأرياح - فينتهي تفتيشهنّ على طعم النظافة والنقاء والحرص.. ولا ينتهي اليوم إلا بعد التفتيش الأكثر دقة من الطبيب أو الممرضة والتي غالبا ما تفحص البنات كبيرات الفصول طويلات النظر، ونستلم ورقة غليظة معنونة بالمركز الصحي أو المستشفى المشرفة على اليوم وممهورة بإمضاء (مشخبط) هو اسم الطبيب الموقع على نهاية التفتيش ومملوءة بكامل تفاصيلنا الجسدية ما خفي وأعلن منها! ويعلن الجرس نهاية الزيارة الصحية ونودع طاقم التفتيش الدكاترة، فما كنا نفرز بين الدرجات الصحية بعد أن ننشد على مسامعهم أناشيد لاعلاقة لها بالصحة إنما مرتبطة بخيارات السيدة المسؤولة عن نشاط ترتيب اليوم وغالبا ما تكون (أم الفصل ) أي فصل.. ولا ضير من عناق الزهور البلاستيكية وكانت المعلمات يبرعن في تفتيحها من أكياس النايلون وزرعها على خراطيش المياه.. لنرش بها عبير الكرم المدرسي على الضيوف فعيب الزهور ولا عيب سيدها! ونعود نحن الى سادة بيوتنا نظيفين حاملين شهادة جودة غسيل الأمهات وحرص الآباء على صحتنا بجيد الأغذية وتمام الوجبات، نستعد ليوم آخر كامل الأوساخ والواجبات. والمدارس حاليا - عامة وخاصة - تكتفي بواجب التدريس الصعب في حدّ ذاته لعدم توفر الكتاب والكراس والكنبة بل وحتى البلاستيك للزهور.. يفتشون في الطلاب يومياً عن حق الفطور وحق الدرس وحق المياه، ويخبئون مع الأحوال السيئة أوساخاً داخلية صعبة التنظيف على أيدي الآباء والأمهات ومغلي أو غالي الصابون، فيظل الطالب ما استحم في خانة طابور متسخ ولو ظهرت عليه بوادر الغسيل الخارجي. ووزارة الصحة لم تعد تحفل بيومها المدرسي لأن زوار اليوم يبحثون عن معاطفهم وضمائرهم البيضاء المفقودة بين يوم الصحة ويوم العادي من طلبات ومطالبات، فلا يستطيعون أبدا أن يمضوا على ورقة تثبت نظافة الداخلي في النفوس أو الأجساد أو حتى الملابس! والبيوت بكامل صفاتها الوالدية تجتهد في جمع بقايا الصابون ليصلح بروة تشطف ما ظهر من الوجوه والأرجل والأيدي التي يراها الناس وليبق ما دون ذلك متسخا ومسكوتا ومغطى! وكان اليوم ثقافة صحية لا علاقة له بكم المال ولا كيف الواجب من الأعمال التعليمية إنما جاء في أصل التربية بأن نعرف أن نظافة نفوسنا الداخلية التي لا يراها سوانا يشابه حرصنا على الخارجية التي نرتديها للناس، وأن حرصنا كصغار على تقليم الأظافر وتنظيف مجاري النفس والسمع الشعر، أنما يقينا في أوله شر الحواس سيئة الرائحة ويكفل كذلك ألا نصدرها بين الناس !!