العنوان أعلاه أعنيه تمامًا.. وهذا ما جعلني أتساءل ماذا تفعل إذا قدر لك الرحيل عن أرض الوطن وسيطرت عليك هواجس وجنون الهجرة.. رغم أنها أمر مشروع لست بحاجة للدفاع عن نفسك أمام الآخرين إذا قررت الإقدام عليها وممارسة قدر أوسع من حريتك الفردية.. وعزمت الانسلاخ عن أرض الوطن غصبًا عنك وراء حلم المجهول.. حقيقة لم تعد أراضي المهجر التقليدية منزوعة الأبواب تمتد شواطئها على حواف البحار العالمية كما كانت منذ آلاف السنين.. كما لم تعد المغامرة محفوفة بصورة الإثارة والتي كنا نشحن رؤوسنا بخيالاتها تجري في عوالمها أنهار الثروة بلا حدود.. وما عليك سوى الاغتراف منها حسب ما تشاء لتتحول بين عشية وضحاها إلى ملياردير ممن لا تمل صحافة مجتمعات العالم الثالث من ذكر أسمائهم ونشر صورهم وأخطائهم بنسيج الحكايات الوهمية وبسببهم يسيطر هاجس الهجرة على شبابنا تخلصًا من الفقر والحصار النفسي وإنعدام الفرص و..و.. كثير من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية وأحيانًا السياسية. فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن.. هل سبب الهجرة لجمع المال فقط ليكونوا من أصحاب المليارات أم أن الفقر والحصار النفسي هما السبب؟ أم هناك أسباب أخرى وراء ذلك؟ أيها القارئ الكريم أخطر من كل هذا وذاك أدعوكم لوقفة قصيرة على جزء بسيط لحقيقة الهجرة في وقتنا هذا؟ المرارة تملأ حلوق السودانيين وضباب العدم الكثيف يحلق فوق الرؤوس وأبواب اليأس مفتوحة على مصراعيها يطل منها آلاف الرجال والشباب على مساحات الوهم المجهول التي احترقت وأحرقت أجسادهم بتلك الديون المادية الكثيرة التي أصبحت على عاتقهم.. يقول أحد الإخوة المغتربين أنه قرر الهرب تاركًا خلفه كل سنوات العمر ووشائج القربى ومرتاع الطفولة.. هربت بجلدي دون وعي .. واليكم قصتي دون رتوش أو ما كياج: حالتي كانت ميسورة والحمد لله أكافح وأعمل من أجل توفير لقمة العيش.. وفجأة ظهر لي «قرن الشيطان» طالبًا مني أن أتقدم لأحد البنوك الاستثمارية على حد قوله لطلب سلفية يقوم هو بمساعدتي وتسهيل هذه المهمة.. ترددت كثيرًا في بادئ الأمر ولكنني ولسوء الحالة التي مررت بها رضخت للفكرة.. فتم كل شيء على وجه السرعة ودون أن أدري وجدت نفسي من أصحاب الملايين.. حيث قام صديقي عفوًا قرن الشيطان بعمل كل الإجراءات.. وإذا سألتني كيف تم ذلك أرد عليك وبكل بساطة لا أدري.. كل ما أفهمه جاءني يحمل معه مبلغًا كبيرًا من المال أعطاني جزءًا منه بينما الأوراق تثبت مديونيتي بكامل المبلغ للبنك.. وفجأة وبعد مرور فترة ليست بالقصيرة فوجئت بالبنك يطالبني بسداد المبلغ.. أما الدفع أو أبواب السجن الحديدية تفتح أبوابها لاستقبالي. اتصلت فورًا بصديق كان يعمل في القنصلية ( ....) طالبًا منه مقابلتي.. بدأت لحظات اللقاء باهتة لا تبشر بأمل كبير في طرح قراري أمامه وطلب مساعدته.. فقد كانت علاقتنا القديمة تحولت إلى ما يشبه الجفوة.. نجحت سنوات الهموم في بناء حواجز وأسوار عالية تفصل ذكريات الطفولة في حي الثورة بمدينة أم درمان العريقة عن أحلامنا وشواغل حياتنا العملية فيها فيما بعد.. وقد بقينا على رابطة واهية تدفعنا إلى اللقاء بين الحين والأخر على فترات متباعدة لا تفتعل أسبابه بقدر إشباعنا لحنين غامض ورؤية مستحيلة لمستقبل أعمارنا معًا. لم أجد صعوبة في الإفضاء إليه بشر ما عزمت تنفيذه وكأنني ألقيت في بئر الماضي بما حرك فيه سواكنه فسيطرت لحظات الصمت الطويل وبعدها وبدون تردد قام بإجراء تأشيرة الخروج هربًا من الديون وخوفًا من السجون تاركًا خلفي أهلي وعشيرتي وأولادي ولا أدري ما هو مصيرهم.. أنا لست الأول ولا الأخير هناك الكثير مثلي من الضحايا. وأترك هذا لفطنة القارئ السوداني في دول المهجر ليحلل كما يشاء له من تحليل .