كنا نظن أن السودانيين حينما يعبرون الحدود إلى بلاد غير بلادهم، ويختارون المهاجر.. كنا نظنهم أنهم سيسقطون كل الرايات والألوان والانتماءات ليعلو شأن الوطن ويعتدل الصف الوطني وتصفى كل أحقاد السياسة ومكرها ..إلى براحات وفضاءات جديدة تلتقي فيها كل الهموم المشتركة. مجموعات سودانية تأتلف تحت رايات محدودة السقوف، وأخرى تتقاطع ولا تلتقي إلا في هموم ومكاسب الذات.. جاليات سودانية تغلي كالمرجل تتوجس كثيراً وتتصاعد أنفاسها حينما تمس في نفوذها وسلطانها.. انتخابات تعقد وأخرى تنفض دون أن تصل إلى حالة وئام ديمقراطي يلبي أشواق المغتربين، وحتى التي يكتب لها النجاح والتوفيق فإنها تسقط في أولى تجاربها، وقد تنتهك أو تؤكل من ذاتها.. رموز وقيادات تحاول هدم المعبد من الداخل، وهي بكامل سلطانها وصولجانها، أليس هذا أمراً محيراً ..؟ إنها تجربة جديرة بالتأمل أدركنا حيثياتها وملابساتها وأسرارها بقدر وافر من الحقائق المستورة والمنظورة. فتجربة الحوارات أو المقابلات الصحفية التي أجريناها في بحور الأيام الماضية مع عدد من القيادات المهاجرة التي أعطت تجاربها في ساحة الجاليات السودانية بالمملكة وخصوصاً في مناطق جدة ومكة المكرمة. والقضية ببساطة شديدة أن شكل وطبيعة هذه الصراعات هي حالة مستنسخة نابعة من ذات الفكرة ومن ذات الواقع، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الشكل والتوجه العام الذي تجري تفاصيله القاسية والمريرة بين المكونات السياسية، وحزب المؤتمر الوطني من جهة وبين مفاصل وتكوينات المؤتمر الوطني الداخلية من جهة أخرى ..إذن هو صراع يصب في ذات المواعين التي يصطرع من أجلها أهل الداخل. كنا نتوقع ألا ينشغل الإخوة السودانيون في الجاليات بغير حقوق ومكاسب المغتربين وتأمين حياتهم واستقرارهم في هذه المهاجر، وتخفيف معاناتهم وحرمانهم. وبدا لي واضحاً أن هناك نافذين يحاولون ابتلاع كل الكيكة، وأن هناك خطوطاً حمراء ومقدسة لا مساومة فيها، كأنما هذه الجاليات تشكلت لأغراض أخرى غير تلك التي تم التوافق عليها ورسمت مساراتها وأهدافها. ويبدو أن هذه الصراعات ستأخذ مداها كل ما اطلت على السطح أو اقتربت من أضواء الإعلام. وأنا أتساءل: ما هي الغاية التي يسعى لنيلها هؤلاء المتصارعون داخل جالياتهم؟ ثم ما هو أعلى سقف من السلطة والنفوذ يمكن أن يحققه الباحثون عن مناصب داخل جالياتهم؟ والحقيقة التي لا جدال فيها أنه كل ما تجذرت الصراعات بين المغتربين، كل ما تضررت أوضاعهم وضعفت قوتهم وقدرتهم على معالجة مشكلاتهم خصوصاً أن قطاعاً كبيراً من المغتربين فقدوا ثقتهم تماماً في كياناتهم الرسمية والشعبية، لا لشيء إلا بسبب أنها أهملت حقوق المغتربين، وانشغلت بذواتها. لسنا هنا في حاجة لإثبات هذا الإدعاء، فالشواهد والمعطيات وواقع الأمر يعطي الحقيقة بكامل جراحاتها وعذاباتها..«استقيموا يرحمكم الله». (0912647861)