عندما يحمل أكثر من «75» ألف سوداني حقائبهم ويعبرون إلى خارج حدود الوطن في ظرف عشرة أشهر فقط فإن الأمر جلل وان الدوافع لهذه الهجرة اقوى من اي قيم اخرى، وليس امام الحكومة سوى الإقرار بفشل سياسات التحفيز للعودة والاستقرار في حضن الوطن والاعتراف صراحة بأن الاقتصاد السوداني يعاني ضعفًا حقيقيًا في سبيل تلبية رغبات واشواق هذه الجيوش المهاجرة. والتقارير التي صدرت بالأمس عن وزارة العمل والموارد البشرية تشير بجلاء الى خطورة تزايد معدلات الهجرة، ويبدو ان العام 2012 يعتبر عام الهجرة من السودان، وعلى ذمة ذات التقارير فإن نسبة الهجرة بلغت ستة أضعاف عن العام «2008» وان خبراء الاقتصاد يتوقعون ان تتسع قاعدة المخاوف بخروج الكفاءات والخبرات العلمية والفنية من دائرة الخدمة المدنية والتي ستكون وبالاً كبيرًا على الدولة ومؤسساتها واقتصادها وتنميتها فالاطباء، والأساتذة الذين يشكلون الفئات الأكثر تاثيرًا هم الآن يقفون على بوابات المهاجر لا يأبهون بالمخاطر ولا بالواقع المرير ولا بالمشكلات العصية التي يواجهها السودانيون في مهاجرهم المختلفة لكنهم خرجوا او بالاحرى هربوا من جحيم الداخل. وتقول احصاءات وارقام وزارة العمل ان الذين هاجروا الى السعودية هذا العام فقط من أساتذة الجامعات بلغ عددهم اكثر من «988» استاذًا وبالطبع سيكون المنتوج العلمي في مقبل السنوات سيئًا وضعيفًا، فالأمر اذن يتطلب اعادة النظر في مجمل السياسات التعليمية ومراجعة القوانين واللوائح المنظمة للعملية التعليمية وضبطها بما يتفق مع الاحتياجات الأساسية للدولة السودانية. يبدو ان الحكومة غير متحمسة او غير راغبة في تحسين هذا الواقع السيء الذي فرض نفسه بقوة على الكفاءات السودانية واجبرها على الهجرة، فمجلس الولايات مثلاً ابدى حماسه لهجرة هذه الكوادر وطالب في ذات الوقت الجهاز التنفيذي للدولة بتقديم اقصى درجات التسهيل في الإجراءات حتى تكتمل هجرة هؤلاء دون عناء او مشقة، بل ان مجلس الولايات مضى الى اكثر من ذلك في نظرته للهجرة بانها غير مزعجة وانما هي مفخرة للسودان، ولكن تبقى القضية في جبل كبير من الاوجاع والآلام والأسى، فالحكومة لا يبدو انها تستند إلى سياسة كلية محددة الأهداف والغايات، فطبيعة سياساتها توحي بالاضطراب او التقاطعات مع ادوات حكومية اخرى، فكيف اذن تواجه الحكومة هذا النزيف المستمر للعقول والكفاءات السودانية؟ فالحكومة مواجهة بمعادلتين، اما ان تفتح الأبواب على مصاريعها لتجني من ذلك اكبر عائد من الإيرادات دون اعتبار للآثار السالبة التي تخلفها هذه الهجرة، وإما أن تحكم القبضة وتضع من المعايير والاشتراطات للحد من الهجرة غير المرشدة وفي ذلك تفقد قدرًا من الثمار المرجوة من الهجرة المفتوحة ولكن في المقابل يضمن للدولة قدرًا من الوفاء والمسؤولية للنظام التعليمي والإداري والخدمي في السودان فأيهما تختار الحكومة؟؟