واكب الفقه المعاصر الاكتشافات العلمية والتطورات في الطب الحديث، واجتهد الفقهاء في شتى المجالات في وضع الأحكام الشرعية في الطب والجراحة، «القياس والاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية أو إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص للاشتراك في علة الحكم». ونالت زراعة الأعضاء حظاً واسعاً من تلك المواكبة حيث أولاها العلماء حقها في الفتاوى والقرارات التي صدرت والتي سوف نستعرض بعضاً منها في هذا المقال. وهكذا واكب الفقه التطورات العلمية الحديثة وذلك لمصلحة البشرية «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» صدق الله العظيم. إن موضوع زراعة «غرس» الأعضاء ليس أمراً حديثاً كما قد يتبادر إلى الذهن ولكنه أمر قديم عرفته البشرية بشكل من الأشكال البدائية وفي بعض الأحيان بصورة متقدمة بعض الشيء. ويبدو من الحفريات القديمة أن قدماء المصريين عرفوا زراعة الأسنان ثم أخذها عنهم اليونانيون والرومان فيما بعد. وقد ورد في كتب السنة أن قتادة بن النعمان رضي الله عنه أصيبت عينه يوم بدر، ويرد في رواية يوم أحد فندرت حدقته فأخذها في راحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعادها إلى موضعها فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما بصراً، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم وهو أول من زرع العين. وقد وصفل الجراحون الهنود القدماء بدقة ترقيع الجلد ونقله سنة «700» قبل الميلاد. وقد انتشرت طريقة استخدام الرقعة الذاتية من الهنود إلى غيرهم من الأمم، وصلت إلى اليونان ثم الرومان ثم نقلها الجراحون الأوربيون في القرن السادس الميلادي. وتطورت زراعة أعضاء وخاصة الزرع الذاتي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وذلك بالنسبة لحيوانات التجارب. أما بالنسبة للإنسان فقد تمت بنجاح خلال القرن التاسع عشر عمليات ترقيع الجلد وخاصة الترقيع الذاتي، كما تم الترقيع المتباين. وقد تكثف في القرن العشرين نشاط الجرحين بالنسبة لزرع القرنية ما بين 1925 و1945 وانتشر كذلك نقل الدم بصورة واسعة. وبدأ زرع الكلى على مستوى الحيوانات عام 1902 على يد أولمان في فينا الذي نقل كلية من كلب إلى آخر. وقام «جابوليه» في فرنسا بزراعة كلية حيوان لإنسان ولقد فشلت تلك العملية على الفور. استطاع الكاريل وهو أحد تلاميذ «جابوليه أن يحسن بشكل باهر عمليات توصيل الأوعية الدومية وأدى ذلك إلى إجراء العديد من عمليات نقل الأعضاء من فصيلة واحدة بنجاح نسبي. الجراح الأوكراني «بوفوروني» قام بأول زرع كلية من إنسان إلى إنسان آخر عام 1933م تبعتها عمليات مماثلة عام 1949م وكلها باءت بالفشل. وبدأ العلماء في الدنمارك في بداية الخمسينيات دراسة لأسباب رفض الكلى وغيرها من الأعضاء، بدأت الدراسات تتوالى حول جهاز المناعة وأسباب الرفض وكيفية التغلب على عمليات الرفض التي يقوم بها جهاز المناعة، ولقد ظهرت عدة محاولات للتغلب على مشكلة الرفض للأعضاء المزروعة: 1/ استخدام الأشعة الكاملة للجسم 2/ استخدام العقاقير خاصة أزاثيوبرين عام 1961م واستخدام الكورتيزون الذي ظل حجر الزاوية في معالجة مشكلة الرفض حتى ظهور عقار السيكلوسبورين عام 1968م الذي فتح آفاقًا واسعة أمام زرع الأعضاء وأعطاها بعداً جديداً. وبتحسن الوسائل الجراحية، وتحسن الديلزة واكتشاف عقار السيكلوسبورين حققت زراعة الكلى طفرات واسعة ونجاحاً كبيراً في مختلف أنحاء العالم حتى في البلاد النامية، رغم الكلفة العالية لهذه العمليات بالإضافة لتكلفة علاج مشكلة الرفض بالعقاقير الباهظة الثمن مدى الحياة. ولم تقتصر عمليات زرعة الأعضاء على الكلى وإنما شملت كل الأعضاء تقريباً ما عدا الدماغ ولم تؤخذ الأعضاء من الأحياء وإنما الأموات وبدأ عهد جديد في أخذ الأعضاء والأنسجة من الأجنة. ومنذ ظهور مفهوم موت الدماغ وتقبله بواسطة الدوائر الطبية والقانونية في السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين تمكن الجراحون من أخذ الأعضاء وهي ما تزال في حالة جيدة بسبب التروية الدموية المستمرة حتى لحظة نزع العضو أو قبوله مباشرة. وقام مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمان صفر 1407 المواقف أكتوبر 1986م بإصدار قراره التاريخي بالاعتراف بموت الدماغ واعتباره مساوياً لتوقف القلب والتنفس توقفاً لا رجعة فيه. وبدأ بذلك عهد جديد له ميزاته وله محاذيره ومخاطره. التبرع بالكلى في ضوء قواعد الفقه الإسلامي 1/ الكلية: عضو بالبطن مختص باستخلاص البول والسموم من الدم توطئة لإخراجها والتخلّص منها بالجسم كليتان، تقع كل منهما على جانب من العمود الفقري أسفل الضلع الأخير مباشرة، يؤدي عجز الكليتين إلى التسمم بالبولينا ثم الموت. 2/ قد تصاب الكلى بأمراض عديدة لا تنفع فيها العقاقير الطبية ولا الغسيل فتعجز عن أداء وظيفتها عجزاً تاماً قد يؤدي إلى الوفاة إذا لم تتم للمريض، عملية زراعة الكلى، والحصول على كلية لزراعتها يأتي بأن يتبرع أحد الأصحاء بكليته عند وفاته، أو يتبرع بها وهو حي، أو يأخذ عوضاً في ذلك. 3/ وحفظ حياة الناس وسلامة أبدانهم من مقاصد «الشريعة» قال تعالى «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» صدق الله العظيم لذا كان العلاج والتداوي من الأمراض مشروعاً فتداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالتداوي وأخبر أنه ما من داء إلا وله شفاء. وإذا كان قتل النفس بغير حق من أشد الجرائم فإن إحياء النفوس من أعظم القربات، قال تعالى «من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» فالإحياء هنا عبارة عن الإنقاذ من هلكه، فهو مجاز إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل. وقد يصاب الإنسان بفشل كلوي يشرف فيه على الهلاك، ولا سبيل لإنقاذ حياته إلا بزرع كلية له، وهذا أمر ميسور في الطب في الوقت الحاضر. وحيث كان حفظ النفس من مقاصد الشريعة، وكان العلاج والتداوي مشروعاً، وكان إحياء النفوس من أعظم القربات، وبما أن إزالة الضر مطلوب شرعاً، واقتضت الضرورة التبرُّع بالكلية لإنقاذ حياة المريض، فإن التبرع يكون مندوباً أو واجباً وذلك بالشروط التالية: 1/أن تكون هناك ضرورة قائمة للتبرع بالكلية لزرعها في المريض. 2/ أن لا تكون هناك وسيلة مباحة أخرى لإنقاذ حياته. 3/ أن يغلب على الظن بقرار أهل الخبرة في الطب العدول شفاء المريض بذلك. 4/ أن لا يؤدي هذا إلى ضرر أرجح من المصلحة المترتبة عليه. والتبرع بالكلية يكون بإحدى الحالات الآتية أ/ أن يتبرع شخص بكليته في حال حياته يحمل بطاقة التبرع بالكلى، فيوصي بأن تؤخذ منه الكلية عند وفاته ويأذن في تشريح جثته لانتزاع كليته حتى ينتفع بزرعها في شخص مريض بالكلى مشرف على الموت. ب/ أن يتبرع بكلية المريض وليه الشرعي، ويأذن في تشريح جثته لأخذ الكلية منها، ولا يكون هناك إذن منه في حياته. ج/ أن يتبرع الحي بكليته للمصاب بالفشل الكلوي ويرضى بانتزاع إحدى كليتيه بزرعها فيه وهنا يضاف شرط خامس وهو: 5/ أن يقرر الطبيب المختص العدل أن الكلية الباقية في الصحيح سليمة كافية لحاجة الجسم، ولا يؤثر أخذ الكلية الأخرى على صحته، أو يؤثر تأثيراً يسيراً، لما يترتب على ذلك من الإبقاء على حياة المريض مع تفويت مصلحة يسيرة في الصحيح ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد يكون هذا التبرع لأب أو لأم، أو ابن أو بنت، أو أخ أو أخت فيؤكد حق القرابة والدم. إن الله تعالى أكرم الإنسان وشرّفه فخلقه في أجمل صورة، وأحسن هيئته «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» «والذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك» ولا يملك الإنسان لنفسه حتى يتصرف فيها كما يشاء، ولكنه مؤتمن على جسمه وأعضائه، ليكون تصرفه وفق شرع الله حفاظاً على الأمانة، وانتفاعاً بها، ولذا فإنه لا يجوز له أن يبيع عضواً من أعضاء جسده، أو يتصرف تصرفاً يؤدي إلى هلاكه واتلافه، يقول تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم» ويقول «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» وبيع جزء من الجسم يجعل الإنسان سلعة تجارية، وفي ذلك امتهان لكرامة الإنسان واحتقار لشأنه. والتبرُّع أو الهبة يختلف عن البيع، لأن البيع تمليك يعوض، أما التبرع أو الهبة في الحالات التي يجوز فيها ذلك لإنقاذ حياة إنسان آخر أشرف على الهلاك وفقاً للضوابط الشرعية فهو درء لمفسدة أعظم، وتحقيق لمصلحة أرجح، ونمط من المروءة ومحاسن الأخلاق، وضرب من الإيثار الذي رغّب فيه الشرع، ولا يكون التبرع هنا إلا عند الضرورة التي تبيح المحظور. الله هو المالك الحقيقي للكون كله «قل اللهم مالك الملك» و«لله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير» وهي ملكية خلق وتدبير وتصرف، وما يباح للإنسان أن يتصرف فيه من ماله الذي يملكه فملكيته الحقيقية لله و«آتوهم من مال الله الذي آتاكم» فهنا بيان للمالك الحقيقي المنعم المتفضل وإن التصرُّف على سبيل الاستخلاف «وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه». هذه قراءة في التكليف الفقهي للتبرع بالكلية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وقواعد الفقه وهو ما أفتى به هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ومجمع الفقه الإسلامي. وبالله التوفيق