٭٭ خلال اليوم الأول الذي قضاهُ الأُستاذ »أبو بصير« في مستشفى الأمراض النفسية، وصل إلى قناعة مفادها أن الجنون مثلهُ مثل أي منصب سياسي أمر تُقرِّرُهُ مصالح الأغلبيّة الميكانيكية، وليس تقرير الطبيب، ولا واقع حال المريض!! ٭٭ والقناعة تلك لم تأتِ من فراغ.. فالأُستاذ أبو بصير لم يكن يُريد في الواقع أن يُزعج السيِّدة حرمهُ، ولا السيد مدير المدرسة التي يعمل بها، ولا التلاميذ الذين ظل يجتهد، بقدر ما تيسر لهُ، أن يُصبح قدوة حسنة لهم «وذلك بإجراء صغير، هو أن يُطبق على نفسه، عملياً، قواعد الأخلاق التي يدرسهم إياها، وخصوصاً في ما يتعلق بفضيلة الصدق، ورذيلة الكذب».. لم يكُن يريد إزعاج أيٍّ من هؤلاء حين قال لهُم ما قال .. كان يُريد فقط أن »يحترم نفسهُ«!! ٭٭ بالصدفة وحدها، وبدون أية نيّة في مراقبة سلوكه الشخصي، كان أبو بصير قد اكتشف أنه »دجّال« كبير، وذلك حينما قارن بين شعوره الشخصي تجاه السيد المدير، وبين العبارة التلقائية التي ظلَّ يُطلقها صباح كل يوم، دون انتباه، حينما يمُرُّ في طريقه إلى مكتبه بالمدير: - أسعد الله صباحك !! ٭٭ لأمر لا يدرك سرَّهُ أبو بصير، توقف، بالأمس عند هذه العبارة التي قالها، وفتح من فوره تحقيقاً قاسياً مع نفسه، كان هو فيه السائل والمسؤول: - هل تتمنّى، فعلاً، أن يُسعِدَ الله صباح هذا المخلوق؟؟ - في الحقيقة، لا .. - فهل تخافهُ، إذاً، إلى هذا الحد؟؟ - أي حد تعني؟؟ - حد أن تُنافقهُ !! - أنا ؟؟.. لا .. لا .. مستحيل أن أخاف مثل هذا ال... - إذاً، أعطني مبرِّراً واحداً لهذا النفاق ؟؟ - أنا لستُ منافقاً .. - منافق، وكذَّاب.. ورعديد كمان !! أيه رأيك؟؟ ٭٭ لم يستطع أبو بصير أن يرُدَّ على نفسه.. ماذا يقول؟؟ فالقرائن كلها ضدَّهُ، وهو يعلم ويُعلِّم تلاميذهُ أنّ من يقول بلسانه ما ليس في قلبه، هو أمرؤ منافق !!.. ماذا بيده أن يفعل لرد هذه التهمة الدنيئة عن نفسه؟؟ ٭٭ قرَّر أبو بصير، في لحظة غضبٍ لاهبٍ على نفسه، وحياءٍ منها، أن يكف بقية حياته عن الكذب والنفاق .. قرر ألاَّ يقول إلاّ ما يؤمن به، فقط!! ٭٭ وقرَّر أن يكون صباح الغد هو موعدهُ مع الصدق الذي لا تشوبه شائبة كذب .. فكان أن واجه كلمات زوجته، صباحاً، بالصمت، بدلاً من ردوده البهيجة على تحاياها الصباحية، فقد كان يُحس أنها لا تقول إلا كلاماً فارغاً !!.. تركها تنظُرُ إليه مذهولة، وارتدى ثيابه ومضى إلى المدرسة .. لقيه المدير عند باب المدرسة، فحيَّاهُ باسماً: - أهلاً أهلاً أُستاذ أبو بصير .. صباح الخيرات .. ما شاء الله جيت بدري الليلة!! كاد يرد عليه كالعادة :«أسعد الله صباحك يا أستاذ» ولكنه كبح لسانهُ عند مدخل العبارة، وتذكّر »التحقيق«القاسي الذي أجراهُ معهُ ضميرُهُ بالأمس .. ثُم تذكّر التحدي الذي قرَّر أن يخوضهُ، وما ألزم به نفسهُ من الصدق .. وجد نفسهُ يقول، بلا مبالاة: - صباح الزفت!! ٭٭ نظر إليه المدير والدهشة تملأ وجههُ، وظل واقفاً ينظُرُ إلى أبي بصير حتى غاب داخل مكتبه .. ثُم راح يحكي لكل من يلقاهُ: خلف الله خفير المدرسة، وأُستاذ مامون، وعشمانة الفرَّاشة .. وحتَّى كبار التلاميذ الذين مرُّوا به، أنَّ أستاذ »أبوبصير« قد جُنَّ!! ٭٭ التلاميذ لم يحتاجوا إلى كبير جُهد، ليكتشفوا صدق مزاعم الناظر حول جنون »أُستاذ أبو بصير« .. فقد قال لهُم في حصّة »التربية الوطنيّة » أنَّهُ ظلَّ يكذب عليهم في الحصص الماضية حين كان يُحدِّثهم عن »فلان وفلتكان وعلاّن« باعتبارهم شخصيات تجسِّد البطولة الوطنية .. قال لهُم مصححاً أن هؤلاء الذين ظل يصفهم بالبطولة والوطنية، هُم، في رأيه الشخصي، كذبة و«حراميَّة« وخونة، ونكراء، أسهمت ظروف غير موضوعية في رفع ذكرهم .. ثُمَّ قال لهُم إن أفضل شيء يُمكِنُ أن يفعلوهُ هو أن يتركوا المدرسة ويبقوا في منازلهم، ليساعدوا آباءهُم، لأن هذا الذي يتعلمونهُ في المدرسة لن يُفيدهُم، لأنهُم سوف ينسونهُ بمجرد أن يتخرجوا في الجامعات، ثُمّ يُنفقوا عشر سنين من أعمارهم سعياً وراء وظيفة لا يجدونها، ثُم يُوفقون في امتهان مهن لا علاقة لها بما درسوه !! ٭٭ بعد أن رفع »الناظر« تقريرهُ حول واقعة جنون »أكفأ الأساتذة«بمدرسته، إلى الجهة الأعلى بوزارة التعليم، بعد أن أنفذ هذا الإجراء الروتيني بساعة واحدة، كانت زوجة أبي بصير بمكتب المدير، جاءت لتطمئن على زوجها الذي أقلقها سلوكه هذا الصباح، ولم ير المدير أيّة دهشة على وجهها وهو يخبرها خبر جنون زوجها، ويطمئنها في ذات الوقت بأنهُ، مع الوزارة، سوف يبذلون أقصى جهد في سبيل »علاجه« .. فوافقت الزوجة، شاكرة، ووافقت الوزارة أيضاً، ووجد أبو بصير نفسهُ محمولاً إلى ذلك المستشفى. ٭٭ ظل أبو بصير يُقسِم بغليظ الايمان، أمام الطبيب، كل صباح، أنهُ ليس مجنوناً، وظلّ الطبيب، بأدب بالغ، ولهجة حنون، يؤكد صدق أبي بصير، قائلاً في عطف: - ومنو القال إنت مجنون؟؟ إنت سيد العاقلين، بس جبناك هنا عشان نطمئن على صحتك .. بس!! ٭٭ اكتشف أبو بصير أن من لا يكذبون في هذه الدنيا هُم زملاؤهُ في »العنبر« وحدهُم .. وأن الكذب والنفاق أبرز علامات العافية النفسية والعقليّة. ٭٭ بعد شهرين، أرسلوا أبا بصير إلى بيته، ومعهُ تقرير الطبيب، الذي يؤكد أنَّهُ، وفي خلال آخر »معاينة« أجراها »للمريض أعلاه«، تأكد لهُ أنَّهُ قد عوفي تماماً من الداء النفسي الذي أُدخِل بسببه المستشفى. ٭٭ أبو بصير كان هُو الوحيد الذي يعرِف سبب »تخريجه« من المستشفى .. لقد قرَّر أخيراً أن يكذِب، بعد أن ظلّ يلتزم الصدق في المعاينات التي ظلَّ الطبيب يجريها لهُ أسبوعياً، قرر أن يُجرِّب الكذب في المعاينة الأخيرة، كذب في إجابات جميع الأسئلة التي ظل يوجهها إليه الطبيب.