حسناً يتجه السيد الرئيس نحوإجراء التغييرات الجوهرية، لإعادة هيكلة الدولة من حيث الوزارات والمؤسسات على ضوء التحديات الماثلة وما شهدته البلاد من تطور سياسي، غير أن مجالس المدينة تتحدث عن كيفية وحدة الصف، ومعايير المشاركة، خاصة إذا أردنا مشاركة واسعة لا تستثنى وطنياً، أحزاباً كانت أوجماعات. ولقد أثبتت تجارب الماضي، أنَّ الدعوة للمشاركة، كثيراً ما كانت تقابلها متاريس واعتراضات من قبل فئات لا تقبل الدعوة إذا جاءت من المؤتمر الوطني، بحسبان أنه هو المسيطر على مفاصل الدولة، ولا يمنح غيره سوى هامش الوزارات، والفتات الساقط من الموائد، علماً بأنَّ هذا الزعم قد كذبه الواقع. فالحركة الشعبية قبل انفصال جنوب السودان، وأثناء الفترة الانتقالية، قد نالت منصب النائب الأول ووزارة الخارجية ووزارة النفط، وغيرها من المواقع التي لا يمكن وصفها بالهامشية. والأحزاب التي شاركت المؤتمر الوطني في تشكيلات وزارية مختلفة، ومراحل متعاقبة، لم تُحرم من مواقع كانت وما تزال في غاية الأهمية، ولم نسمع بوزير تبرم بأنَّ صلاحياته قد سُحبت، أوقراره قد تعرض للنسخ والإلغاء. والأمر الذي أصبح درساً، هو أن المشاركة إما أن تكون ذات فعالية وأثر، أولا داعي لها من حيث الجدوى بحسبان أنها تشبه استنبات البذور في الهواء، أو كمن ينقش على مسطح مغمور بفيض من المياه. والتشكيلات الوزارية التي تطغى عليها الموازنات الجهوية والقبلية أوالترضيات بمعزل عن الكفاءة والاقتدار هي كذلك أصبحت ضرباً من إهدار الموارد، وموضوعاً تتناوله المجالس بسخرية إذ لا يجدي إسناد أمرٍ لغير أهله، ولا منصب دون القدرة على الوفاء بحقه، والقيام بالواجب تجاه استحقاقه بما يناسبه من مستحقات. والتغيير الجوهري الذي يتوقعه الرأي العام ينبغي ألا يغادر محطات الكفاءة إلى تجريب ما جُرِّب، وتكرار الذي ملَّه النَّاس من أشخاصٍ استنفدوا جميع الأغراض ولم يعد لديهم ما يمكن أن يضاف، بل أصبح وجودهم خصماً على ما أُنجز، بحسب القاعدة التي تنص على أنَّ لكل زمانٍ رجالاً، كما لكل مهمة من تخصص فيها ولا ينبغي أن نسند الأمر لغير أهله، عملاً بمبدأ أصيل يحذرنا مضمونه من أن ننتظر الساعة فيما لو أصررنا على مثل تلك الأفاعيل. والكفاءة التي نعنيها، هي التي تعصمنا من تخطيط لا يراعي تصريف المياه الناتجة عن أمطار غزيرة فيحدث ذلك الذي نراه من دمارٍ للمساكن، وخراب في الطرق وسيول تجرف الإنسان والحيوان، بمثل الذي جعلنا نرثى لحال شهدته مناطق شرق النيل، وأحياء عديدة بغرب أم درمان. والكفاءة التي نعنيها، هي التي تضع الوزير المؤهل بغض النظر عن حزبه وجهته وقبيلته في موضعه المناسب إذ ليس بالسياسة وحدها تُدار الشؤون، كما ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. كما أن معيار الكفاءة هو الذي يجعل مختلف الأنشطة في نماء دائم، وتطور تتقاصر دونه همم الذين أرادوها وأركسوها بالرغم من توفر الإمكانات، ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فإدارة المال في زماننا هذا، لا يضطلع بها إلا ذو العقول، ولا يسوس شؤونها إلا من تمتع بالكفاءة، واستيعاب مطلوبات العصر وأولوياته، وفق التسلسل الذي يوجبه علم الاقتصاد. والسياسة الخارجية لا يتبناها إلا الرجال الذين عركتهم التجربة، وتعرفوا على حسن المقال، وواقع الحال، وكيفية التعامل مع كل عقل وشخص بما يناسبه حسب الذي يقتضيه الظرف والحاجة ودبلوماسية الأقوال والأفعال. أما الكفاءة التي تجعل من هذه البلاد، تنطلق بتسارعٍ ليس بالضرورة أن تقاس بميزان الأحزاب المختل، ولا بمعيار الجهة المعتل، وإنما بما تتطلبه المهمة من مؤهلات، بغض النظر عن الذي يمارسها إلى أي جهة ينتمي حزباً كان أو مجموعة لجأت إلى حمل السلاح. وإذا رغبنا في تغيير جوهري، لإزالة الكرب، وضمان العافية، واستقرار الحياة وسلامة المسار، فإن الوقت قد حان لإلقاء كلمة الوداع للترضيات والموازنات، وما يتبعهما من تعيينات هي في الأصل من قبيل الانصياع لعنصريات لا تقودنا إلا من حالٍ أرذل إلى حالٍ أشد رذالة ونظل هكذا نعاني بعيداً من آفاق الكفاءة لننحطّ في كل مرة إلى أسفل سافلين.