يجب ألّا يُحمَّل لقاء الرئيس البشير بالسيِّد الصادق المهدي رئيس حزب الأمَّة أول من أمس بمنزل الأخير بحي الملازمين بأم درمان، أكثر ممّا يحتمل، فكلُّ شيء كان مفتوحاً ومكشوفاً وفوق الطاولة، لا يجرّ وراءه أية تأويلات وتفسيرات في غير مكانها.. تُشير وكأنَّ اللقاء هو لمسة أخيرة قُبيل مشاركة حزب الأمَّة في الحكومة وهذا بالطبع غير وارد الآن.. فاللقاءات بين الرئيس وزعيم الأنصار لم تنقطع وتبادلا زيارات من قبل، للنقاش وتبادُل الآراء حول مختلف القضايا الوطنيَّة وشؤونها، وذاك منهج محمود في حسن السياسة وتدبيرها، ولم تُغلق الأبواب بين الطرفَين طيلة الفترة الماضية، غير أنَّ رغبات المؤتمر الوطني التي تصطدم برغائب حزب الأمَّة القومي، دائماً كانت تجنح إلى أهميَّة مشاركة حزب الأمة في الحكم وإسهامه في العمل الوطني من منصَّة السلطة لا من مقاعد المعارضة التي امتدَّت لاربعة عشرين عاماً.. ويستعصم الحزب وزعيمُه بمبرِّرات لم ترتقِ إلى القطعيَّات يرهن بها موافقاته على أن يكون بين ركاب سفينة الحكم الحالي.. القضايا التي تم تناولها في لقاء الأمس، هي بالفعل قضايا الوطن المتعلقة بكيفيَّة الحكم والدستور والسلام وتهدئة الأوضاع في كثير من مناطق البلاد الملتهبة مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان ومنع تمدُّد الحرب واستمرارها، ولا توجد حكومة عاقلة لا تفتح الباب ليتجدَّد هواء الآراء والأفكار باستمزاج آراء الأحزاب المعارضة ومن يقفون على الرصيف.. وسعت قيادة الدولة والحكومة منذ فترة طويلة أن تمدَّ الأيادي نحو كل الفرقاء السياسيين وعدم قطع شعرة معاوية مع المخالفين، لكنها كانت الأقرب دائماً لحزب الأمَّة الذي تميَّز دون غيره بطرح أفكار ومبادرات وآراء تُحمد للسيِّد الصادق المهدي، بالرغم من أنَّ حزبه يصافح الحكومة بيده اليمنى ويضع كفَّه الأخرى مع أحزاب ما يسمى بقوى الإجماع الوطني وبقيَّة مكوِّنات المعارضة السياسيَّة والمسلحة.. لكن في كل الأحوال لا يجد أهل الحكم رهقاً في محاورات السيد الصادق المهدي وحزبه، وقد استفاد الطرفان من ذلك فالسيِّد الصادق على مستوى أسرته استطاع ترتيب أوضاع أبنائه في مؤسسات الدولة ودفع بنجله الأكبر إلى منصب مساعد الرئيس، وأبقى الحزب في منزلة بين المنزلتين يلامس تراب المعارضة ويستنشق عبير السُّلطة الفوّاح الذي يهبُّ عليه من كل جانب! وبالرغم من أن هذه الحالة تشبه حزب الأمَّة القومي وتوجُّهات قياداته وهي تحافظ على المنطقة الوسطى والتأرجح المستمر، إلا أنَّ حساب الربح والخسارة لدى الطرفَين متعادل موضوعيّاً مع معطيات الحياة السياسيَّة في السُّودان التي تقبل كل الاحتماعات والتوقُّعات مثل الجلابيَّة الأنصاريَّة التي تُلبس على الوجهتين! لكن المهم في كل ذلك، يجب ألّا تكون اللقاءات بين الرئيس البشير ورئيس حزب الأمَّة وأي زعيم آخر، مجرَّد تداول وتحاور في الشأن السياسي والاستماع إلى وجهات النظر وتبادلها، دون أن تكون هناك خطوات جادَّة وعمليَّة وحاسمة في تطوير الحوارات، إما إلى تشارك في مسؤوليَّة إدارة البلاد أو توافُق على الحدّ الأفضل المطلوب من علاقة التعاون بين الحكومة والمعارضة بحيث لا تنجرف الممارسة السياسيَّة إلى العنف والمواجهة والقطيعة كما يحدث في العالم من حولنا.. ويتميَّز السُّودان وأهلُه بخصائص نادرة في هذا الصدد عبَّر عنها السيد الرئيس والصادق المهدي ليل أمس وهما يختتمان لقاءهما، بالتصريح والإشارة إلى هذه الميزة في التعاطي التلقائي والمسؤول لعلاقات السُّودانيين السياسيَّة التي لا تعرف الخصومة الفاجرة ولا وضع المزاليج على الأبواب والمداخل والمخارج.. إذا كان هذا اللقاء كما قال د. مصطفى عثمان إسماعيل بادرة لحوارات وطنيَّة مع كل القوى السياسية، فإنَّ مسؤوليَّة الرئيس البشير كبيرة في تذويب جليد الخلافات وتدفئة العلاقات مع الآخرين وتمهيد الطريق لتوافُق وطني يضم الجميع ويجنِّب بلادَنا مخاطر التمزُّق والخلافات وترميم ما تصدَّع بين الإخوة الأعداء..