لم يعد العمر في زماننا هذا معضلة للتفاؤل والأمل... فما عادت الأيام هي الأيام ولا السنوات هي السنوات التي نعرفها في أثر بعدها النفسي علينا... متاعب الحياة وهمومها الكثيرة هي وراء أن تصبح الأيام مثل «حلاوة القطن» التي تذوب بمجرد وصولها اللسان لا تترك إلا أثر لونها.. هكذا نحسب أن الأيام تضيع من بين أيدينا ولا تترك فينا إلا أثرها السيئ على نفوسنا وحسرة تفلتها يوماً وراء الآخر، ولم نسجل فيها ما يطمئن ويريح النفس قليلاً. وعزاؤنا الوحيد في هذه الدنيا أننا ما عدنا نحسب الأيام ولا الليالي، فكلها تتشابه، وكلها تأخذ لوناً واحداً هو لون الضباب وصعوبة الرؤية التي تسمح لنا برؤية بصيص أمل بأن في الوقت براحاً لنفعل ما نريده ونبتغيه. ابن الثمانين بعد الألف وتسعمائة صار عمره الآن ثلاثة وثلاثين عاماً... ومكانه سر لم يقدم لنفسه شيئاً يذكر ناهيك عن أن يقدم لأسرته وأهله الذين ينتظرونه، فمازال ينتظر معونة الأبوين إن كانت لهما معونة أو زاد يدخرونه لهذا الزمن يقدماه له ولمن هم معه في ذات الأسرة... فجميعهم مكبلون بقيود الوهم والحسرة والألم ينتظرون الوهم الأكبر بأن يتوظفوا في وظيفة لا تحقق لهم مبتغاهم ومرادهم... ناهيك عن طموحهم في زواج لإكمال نصف دينهم الذي يزيد عليهم الطين «بلة»... وعطاء الإنسان يبدأ من الثاني والعشرين من العمر حيث القوة والصبية والشدة... فإذا فكر جاداً بأن «يعملها» وتزوج بعون ودعم الأسرة سيضيف تعاسة ووبالاً لأسرته الكبيرة والمجتمع، ولن يفلح بمال الوظيفة في أن يواجه مطلوبات الحمل والولادة وضرورات التعليم الذي أصبح مارداً جباراً يعشعش في أذهان الآباء والأمهات دون جدوى للخلاص من فكرته... وإن بقى على حاله ففترة شبابه تقوده لإنزال الأذى بالمجتمع مهما كان صابراً ومتماسكاً وصلباً للتعايش مع معطيات المجتمع من الساقطات وملهياته من المخدرات والخمور والهوى بما يحققه من مال تحققه له الوظيفة وضعف المستوى والعائد. ورغم كل هذا فإن الحياة لن تتوقف ولكنها تضخ كل يوم إفرازات لا حول لها ولا قوة... أطفال يقذفون على مفترق الطرقات، ودور الرعاية تشكو وتئن من ويلات صراخ الأطفال مفقودي الأبوين.. وهذا هو نتاج دوران الحياة بتروسها الصدئة التي تحدث أنيناً اجتماعياً... يقف الجميع حائراً مكتوف الأيدي لإيقاف صوتها المؤذي. هذه هي صورة الحياة التي نعيشها اليوم وكل يوم... وكل ساعة تزدحم المقابر بالأموات الذين في أعمارهم المبكرة نتاج هذا السلوك اللاأخلاقي، وبعضهم من الأبرياء الذين ذهبوا عن هذه الفانية بحسرتهم وأدبهم وألم العمر الذي ضاع من بين أيديهم، دون أن يحققوا شيئاً من أحلامهم التي جاءوا للدنيا من أجلها. ولم يعد التفكير في الزواج طموحاً لدى الشباب، فالواقع المعاش يؤكد ذلك دون نقاش، وبنت العشرين لم تعد تحلم بتخضيب أناملها ناهيك عن قدميها... والفالحة صاحبة الحظ التي تلحق في الأربعين بنيل حظها من الزواج وهي في عمرها هذا في ريعان شبابها يمكن أن تعطي زواجاً نافعاً حتى عمر الستين، وبعدها تنهار قوتها، ويا له من حظ لو حباها الله بمولود تفلح في حسن تربيته علها تكون بهذا قدمت للمجتمع شيئاً من المنتظر.. أما إذا بلغت الخمسين وهي على حالتها عازبة فنعتذر لها، حيث بالإمكان أن نطلق عليها لقب عانسة الزمان الصعب... فهذه عليها أن تركن لحظها وقدرها، وأن تجتهد لمقابلة هذا النسيان بالرضاء والقسمة والنصيب، وأن تمتثل لأمر الله عسى أن يعوضها الله عن ذلك بالجنة، وما ذاك على الله ببعيد... وبالرؤية الثاقبة لبنات الغبش وقراءة الواقع فإنهن الأكثر قبولاً بالزواج بأية كيفية وأية لونية، لكن المتضرر هو المجتمع حين يقفن في وسط المشوار حائرات ماذا يفعلن، وإذا زاد طموحهن وظللن يحلمن بفتى الأحلام صاحب المال والجاه والوجاهة سينتظرن كثيراً ليبلغن الخمسين، هذا إذا ساعدتهن مواصفات الجمال والأدب. والشارع العام الآن يقص علينا حقيقة ما نقول، والجامعات تكتظ بالبنات في سن الأربعين في ما يسمونه الدراسات العليا، ظناً منهن أنه البديل المتوفر في غياب الزواج المبكر. وإحصائية الطلاق في سن النساء المبكرة خير دليل على صعوبة استمرار الحياة وقسوتها نتيجة للخلافات بين الزوج والزوجة لصعوبة مواجهة ضرورات الحياة. والمتضرر الأول الأسرة التي تعجلت وتسرعت... والمطلقات ينتظرن دورهن في الزواج بأية شكلية وأية لونية خصماً على صاحبات الحق من اللائي لم يذقن طعم الزواج بعد.. وسهولة الزواج من المطلقات وصعوبته من البكر يجعل الأمر جد غريب... والمعادلة غير موزونة وتحدث الهزة الاجتماعية التي تتساقط منها العديدات ويصبحن في مفترق الطرق بين الانضباط والإنحلال والتفكك والتردي الذي لا تحمد له عاقبة... بل يصبح منبوذاً منكراً يصرخ منه المجتمع... السؤال الذي ليست لدي عنه إجابة... هل نوقف سنة الرسول الكريم وهو الذي يقول «تزوجوا فقراء يغنيكم الله»... أم ننسى حديثه الكريم: «شراركم عزابكم» أو ما يقوله عليه أفضل الصلاة والتسليم «اظفر بذات الدين تربت يداك»؟ لكن أفضل الإجابة عنده صلى الله عليه وسلم واضعاً أكثر الإجابات والحلول اتزاناً لضمان استمرار المجتمع، حين قال: «إياكم وخضراء الدمن.. قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال الحسناء في منبت السوء.. إذاً لا تفيد ذات المال والجمال وهي الخارجة من بيت مهزوز «مخلخل» همه المال والتظاهر فالعرق دساس.. وبعدها يقول عليه أفضل الصلاة والتسليم «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق».. إنها آخر مفاهيم الإستراتيجية الاجتماعية لحفظ كيان المجتمع معافى سليماً مترابطاً من الهزة التي نعيشها اليوم.