لا أدري إن كانت مجرد مصادفة محضة وبحتة، أم هي خطة مقصودة ومرسومة ومدبرة ومرتبة بصورة مسبقة من جهة ما، لكن الذي حدث، على النحو الذي لا يعلم ما ينطوي عليه من سر خفي في باطنه غير المرئي سوى رب العزة والجلالة المولى سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عليه خافية ولا يحدث شيء إلاّ بإذنه وعلمه وحكمه المحيط وحكمته، هو أن إقدام زعيم حزب الأمة وإمام الأنصار رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي على القيام بزيارة مفاجئة للعاصمة الفرنسية باريس، وإبرام ما يسمى «إعلان باريس» مع الجبهة الثورية المتمردة في مناهضة مسلحة للسلطة الحاكمة في السودان، على النحو الذي تم في الأيام القليلة المنصرمة، قد جاء في توقيت متزامن مع حلول الذكرى السنوية الستين لاستلام الجيش الوطني القائم في السودان للمهام الوطنية التي صارت من واجباته السيادية وصلاحياته الدستورية بعد حصول الاستقلال السوداني من الاستعمار الأجنبي البريطاني السابق في منتصف خمسينيات القرن الميلادي الماضي، والدخول في الحكم الوطني الذي يستظل بكل السلطات والصلاحيات المستقلة المكفولة له على المستوى السيادي والأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية الشاملة والمتكاملة في المجالات التنفيذية والتشريعية والقضائية والدفاعية وغيرها. وكما أشرنا خلال الايام السابقة، في معرض الاحتفاء السنوي بهذه الذكرى الخالدة، والتي درجت العادة على الاحتفال بها في مثل هذه الأيام من كل عام بوصفها بمثابة العيد الوطني للجيش السوداني، فإن الحلول السنوي لمثل هذه الذكرى إنما يأتي كمناسبة صالحة للوقوف على العبر المستخلصة والدروس المستفادة من التجربة الوطنية للقوات المسلحة السودانية في أدائها لمهامها وقيامها بالواجبات الجليلة والثقيلة الملقاة على عاتقها بصفة عامة، وفيما يتعلق بطبيعة العلاقة المؤثرة فيها والمتأثرة بها والمتفاعلة معها من جانب القوى المدنية الفاعلة في الحياة العامة والعاملة في الأنشطة ذات الطابع السياسي بصفة خاصة في صراعاتها وتطلعاتها الهادفة للهيمنة والسيطرة على سدة مقاليد الحكم أو السلطة الحاكمة. وبناء على هذا، وكما ذكرنا من قبل فقد وجدت القيادة العامة للقوات المسلحة الوطنية في السودان أثناء الفترة الأولى للمرحلة اللاحقة على الاستقلال من الاستعمار أنها مضطرة للموافقة على أن تتولى سدة مقاليد السلطة الحاكمة عندما قامت بالاستجابة في تلك الفترة «عام 1958» للطلب الذي نقله لها الزعيم الوطني الراحل عبد الله خليل رئيس الوزراء في الحكومة الائتلافية المنتخبة آنذاك بمشاركة لكل من حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي وزعامة السيدين المرحومين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني. أما التدخل السياسي الأشد وطأة على الدور الوطني للقوات المسلحة فقد كان هو ذلك الذي تم في مرحلة لاحقة لتلك الفترة الأولى عقب الاستقلال من الاستعمار الأجنبي البريطاني السابق، وهو التدخل الذي تم القيام به من جانب قوى اليسار السوداني بطابعه الاشتراكي والشيوعي في ذلك الحين، وقد جاء ذلك كأمر طبيعي وكتطور حتمي إذا ما تم النظر له في إطار ما كان يجري آنذاك على الصعيد السياسي في المستوى العالمي لما كان يسمى العالم الثالث أو النامي ودوله الحديثة الاستقلال الوطني، حيث كان اللجوء إلى الاستيلاء على سدة مقاليد الحكم والسيطرة على السلطة في مثل تلك الدول بالوطن العربي والقارة الإفريقية وأمريكا اللاتينية والقارة الآسيوية بمثابة موضة تابعة لموجة الحداثة الغربية المعاصرة، ونابعة منها ومحاولة للدخول فيها أو مواكبتها في تلك المرحلة التي كانت القوى ذات الطابع اليساري الثوري الاشتراكي أو الشيوعي هي القوى المؤهلة للتلاحم مع تطوراتها والاندماج فيها، وهي الأكثر قدرة على الانفعال بها والتعبير عنها والانخراط في الأنشطة المتصلة بذلك. وبناء على هذا فقد كان من الطبيعي أن يأتي الانقلاب الثوري المدني والعسكري الذي استولت فيه القوات المسلحة السودانية على سدة مقاليد السلطة وتولت السيطرة على الحكم في السودان بهيمنة منفردة عام 1969م مدفوعاً بطابع يساري اشتراكي وشيوعي.. بيد أن ذلك الانقلاب، خاصة ما حدث بعده ونتيجة له في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الحزب الشيوعي السوداني عام 1971، كان هو الدافع الذي أدى إلى شروع النخبة المدنية والعسكرية الممثلة للحركة الإسلامية السودانية الحديثة والمعاصرة في الأنشطة التي دخلت فيها حتى بلغت أوجها وأسفرت عن ثمارها وحصدت زرعها على النحو الذي جرى لدى قيامها بالإقدام على الانقلاب الثوري المدني والعسكري الذي قامت به عام 1989م.. ونواصل غداً إن شاء الله..