ربما هي تصاريف القدر وحدها أن تمهد لهذا الرجل هذا الوضع المثير جداً، فالرجل الذي نتحدث عنه شخصية محورية ولا يختلف اثنان في ذلك لأنه استطاع أن يجمع بين السياسة والعسكر والأكاديمية والحرب والهندسة والغابة ذلك الرجل هو رياك مشار تيني. أشياء كثيرة هي التي ساهمت في صنع هذا الرجل، فالطبيعة الخلابة والنظام الاجتماعي الرأسي الذي تسود فيه زعامة رب الأسرة الذي يستطيع أن يجمع بين الزعامة والقائد الملهم وصاحب الرأي السديد الذي تسير وفقه أسرته كشأن كل المجتمعات المحيطة في القارة الأفريقية ادت إلى تجميع هذه الصفات والمكونات في شخصية مشار الذي ولد لأبوين من قبيلة النوير في العام 1953م وهناك قول آخر في انه ولد في العام السابق لهذا العام بدأت شخصية تتكور عقب ظهور علامات النضج الذكوري وهو لا زال في سن الثالثة عشر حيث إنه الابن الأكبر لأبيه ولهذا عند النوير هو الوارث لأبيه ويحفظ له النظام القبلي الذي ينتمي له ان يخلف أباه في ورثته والتي تشمل كل شيء حتى نسائه عند النظام النويري فيما لا يختلف هذا النموذج عن كثير من نظم قبائل المنطقة التي تسودها شبه ثقافة موحدة الا ان الاختلافات هناك تصنع فارقاً كبيراً من قبيلة لأخرى. هكذا نشأ النائب السابق لرئيس جنوب السودان، وقائد المتمردين الحاليين«رياك مشار»، حتّى تجلّت بيئته بائنة على جبينه. وقيل في أثر النوير إنّ الصبية عندهم يدشنون رجالاً ذوي بأس شديد بين الثانية عشرة والسادس عشرة من أعمارهم، حيث يضطلع الكبار ضمن مراسم التدشين بمهمة اجتراح شلوخ عميقة بعرض جبهة الصبي دلالة على النضج. نبوغ مبكر لم يختلف مشار عن أنداده كثيراً فالذكر منهم منذ ميلاده وإلى ان تكتمل رجولته يظل هو عشم الأسرة بل القبيلة في أنه الفخر المرتجى لها والقائد الذي يمكن أن يصنع لها مجداً، في ظل نظام قبلي لصفات القوة والرجولة والزعامة فيه شأن كبير تخلق الفارق بين مكونات المنطقة القبلية ويمكن ان تسود به قبيلته على كل قبائل المنطقة التي تتعايش وتشارك تلك القبيلة المنطقة في كثير من المعايش المتشاركة كشأن القبائل الاخرى خاصة إذا ما كانت تلك الشخصية ملهمة وصاحبها له رأي في كل شيء، و»رياك» قد بدأ حياته في تلك المنطقة مساعداً لأبيه في رعاية الأبقار التي تمثل حظاً كبيراً لرجل النوير فهي أساس الحياة عندهم بيد أنه ولرؤية أبيه والذي تشير بعض الأقاويل أنه رأى ان لابنه هذا قصة سيكون لها ما بعدها وما كرس لهذه القناعة رؤيته في ابنه روح «النباهة» ما جعله يدفعه لضرورة نيل العلوم الحديثة لقناعته إنه لابد لشخص مثله أن يكون منطلقاً من أساس علمي، رغم أن مشار تيني كان في بيئة لا تحترف الا الرعي وتربية الماشية والأبقار، فدفعه للدراسة في مدارس المنطقة التي إنحدر منها إلى ان ولج جامعة الخرطوم والتي درس فيها الهندسة وتخرج منها حاملاً لدرجة البكلاريوس في هذا المساق، بيد أن مشار كانت روحه تواقة لإحداث التميز في هذا المجال فهاجر إلى انجلترا واستطاع أن يحصل على الدكتوراه في الهندسة ليعود للخرطوم مدرساً في جامعة الخرطوم للهندسة التي بدأ في نيل أساسياتها في نفس الجامعة. ونقلاً عن الأستاذ عبدالجليل سليمان في دراسته لشخصية رياك مشار أنه كسب شخصيته من بيئته حيث شأن الكل وهو بالتالي لا يختلف عن أنداده في تلك المنطقة حيث إن الناس يكتسبون سلوكهم من بيئتهم، فيستدعون أحد رجال الدين ويدعى «كورمون»، وترجمتها زعيم جلد النمر، ليساعد في تسوية الخلافات، ويرأس الاحتفالات الدينية، ورغم أنه لا يُحظى بسلطات وصلاحيات سياسية كبيرة، لكنّه كثيراً ما يتغوّل عليها بحكم منصبه الديني «الروحاني» العظيم.. تلك الروح الأفريقية التي تحلق في فضاء جغرافي ومناخي متسع ومتنوع.. فضاء يجري تحته نهر السوباط وتكثر فيه المستنقعات ويتمدد إلى الحبشة حيث «نوير قامبيلا». ربّما كل هذه التعقيدات هي التي جعلت النوير معتزين بأنفسهم حد الإفراط، وميّالين إلى الاستقلالية والتمرد. «الهندسة» و«الغابة» ربما لكل هذه التعقيدات التي وجدت باقاليم الجنوب من فلكلور وتراث كثيف وروايات دراماتيكية للحياة رمت جنوب السودان في العام 1952م بطفل اسمه «رياك مشار تيني»، الذي التحق بكليّة الهندسة، جامعة الخرطوم، وتخرج فيها، ثم درس الهندسة بالجامعات البريطانيّة، وعاد أستاذاً جامعياً فذاً ذا صيت، لكنه سرعان ما التحق بالتمرد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» في العام 1983م، عند إندلاعها قبل أن ينشقّ عليها وعلى زعيمها الأكبر، العقيد د.جون قرنق ديمابيور، إذ وقّع العام 1997 اتفاقية الخرطوم للسلام مع الحكومة السودانية، وتسلم بموجبها منصب مساعد رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس تنسيق الولاياتالجنوبية المجلس الذي ظل يقوم بأعبائه قبيل انفصال الجنوب بقليل إذ لا يزال وقتها حلم الوحدة يراود جميع السودانيين، وسرعان ما فضّ سامره ونفض يديه عن الحكومة في الخرطوم وعاد مجدداً إلى الغابة، العام 2000م. ويقول البعض هنا إنه ادرك أن مصيره سيضيع بعد أن لمس إتجاه الحكومة القوي لطي سنوات الحرب وتوقيع إتفاق للسلام مع الحركة الشعبية مهما ارتفع سعر ذلك وإن قاد للانفصال، فشعر الرجل رهبة ذلك وفقدان مكانته إذا ما أتى قرنق للخرطوم في ظل اتفاقية سلام، ولأن الرجل يرى في نفسه الزعيم والملهم لقومه رأى ضرورة أن يكون حاضراً في تلك المحاصصة وان لا يترك قرنق وحده يصنع في مستقبل الجنوب ما يريد، فترك كل المناصب والمجلس الذي أسس خصيصاً لرعاية اتفاقه مع الخرطوم خلفه وهاجر عائداً للغابة مصافحاً قرنق ومعضداً. بيد أن كثيراً من المتابعين لسيرة الرجل لا يلومونه على ذلك لقناعة أن الإنسان ابن بيئته وهذه هي صفات «النويراوي» نسبة لقبيلة النوير الذين قليلاً ما يوفون بما يوقعونه من عهود وفقاً لبعض الرواة. «واندينق» و«رياك» ربما أن رحيل القائد وملهم الحركة الشعبية د. جون قرنق لم يترك مساحة كبيرة لصناعة خلفه الذي ينال إجماع الكل كما كان يحدث مع قرنق، ولذلك بدت بعد استقلال الجنوب عن السودان مواقف رأى الكل بانها مفصلية تجاه ترتيب البيت الجديد من الداخل، ولأن مشار كان تواقاً للسلطة التي سعى لها عقب كل اتفاق منذ الغابة وإلى الوزارة لم يعجبه الاتجاه الذي ادى إلى تسييد غريمه سلفاكير ميارديت خلفاً للزعيم الراحل جون قرنق وربما محصلات الرجل الأكاديمية كانت تدفعه إلى أنه الأنسب لخلافة الدكتور ولا يعقل أن يأت رجل من عامة العسكر متقدماً عليه متمرداً بذلك على أدبيات الحركة التي ترى أن الأول دخولاً للغابة هو الأحق، رغم ان سلفا قد يكون ليس بسابقه بفترات طويلة إلا انه ظل متمسكاً بموقفه ولم ينشق عن قرنق مطلقاً، ما جعله محل ثقة عند قرنق وصار كذلك عقب رحيله أيضاً ليدفع به اعضاء الحركة وفقاً لكارزيميته خليفة للزعيم الراحل، أشياء كثيرة من هذا القبيل جعلت الرجل «مشار» يبتدر صراع السلطة مع الرئيس سلفاكير، وتوسّل فيه بدايةً - بحسب ما أُشيع حينها - بما يعرف بنبوءة «واندينق»، وهو «كجوري»، ذو سلطان ونفوذ عند النوير، فقد قال في نبوءة له : إن القائد الجنوبي الذي سيأتي بالسلام سيمكث في الحكم أياماً بقدر سنوات حربه في الغابة، وسوف يستلم منه الحكم أحد أقربائه فيحكم فترة من الزمن يعقبه أحد أبناء النوير، الذي من صفاته إنه «أحول» العين ويستخدم يده اليسرى «أشول»، ما أخاف الرئيس «سلفاكير» وفقاً للخلافات ورؤية عدم الرضا بينه وبين مشار رغم إنه نائبه، وقادت النبوءة سلفا ليكون حذراً دائماً من نائبه الذي تنطبق عليه الصفات المذكورة في النبوءة. ولكن مشار لم «يطلق» الحركة الشعبية التي أبدى تمسكاً بها رغم أن الجزء الأعلى من قادتها والذين ينتمون لقبيلة الدينكا القبيلة الغريم لقبيلة النوير من حيث الحجم والزعامة، بزعامة سلفا قد رأوا فيه بأنه الشخص غير المرغوب فيه، وتحت ظل النبوءة تلك، ظل مشار يمضي في عمله كنائب للرئيس، وتحت وطأة تلك النبوءة، ظل الرئيس سلفاكير الذي يؤمن إيماناً قاطعاً بتعاليم ونبوءات الكجوريين، يرزح ويتقلب من شدّة الأرق، خوفاً من انقلاب الرجل عليه، فظلّ الرجلان يرصدان بعضهما بعضاً، على صدى تلك الأسطورة، بريبة وشك، خاصة وأن علامات النبوءة «الكجوريّة» النافذة انطبقت على مشار تماماً، ويبدو أنّ هذا ما دفعه بعد إقالته من منصبه كنائب للرئيس وفقاً للأستاذ عبدالجليل، لأن يقول عبر مؤتمر صحفي إنه باقٍ داخل الحركة الشعبية، ولعله كان ينتظر تحقّق النبوءة، وهو ضمن عضوية الشعبية. هذا الإعلان جعل الرئيس سلفاكير لا يهنأ ويهدأ بالرغم ما ابتدره من خطوات خيل إليه إنها ستعصف بالرجل وتقوده ليلملم أطرافه مغادراً حقل الشعبية ومتجهاً صوب قبلة أخرى ليسهل صيده، بيد أن رفضه مغادرة الحركة رغم إقالته جعل سلفا غير مطمئن وأصبح متيقناً أنّ هذا البقاء سيرفع من نسبة احتمال تحقق نبوءة «واندينق». الرياح تهب من هنا استمر الجدل ونار الفتنة مشتعلة بين الرجلين ومتقدة رغم أنهما مضيا في الاتجاهات التي إختارها كل منهما، ليشهد الجنوب واحدة من أفظع الاغتيالات والتصفيات القبلية لم يشهدها الاقليم خلال سنوات التمرد ومضى الرجلان الكبيران، إلى خط النهاية، بالبلد الوليد والذي هو خط البداية ذاتها! بعد أن أعلن سلفاكير عزل نائبه مشار، وإحالة الأمين العام للحركة الشعبية باقان اموم إلى لجنة تحقيق متهماً اياه بفساد مالي، وفي ذات الخطوة أعلن مشار قبوله قرار الإقالة لكنّه أعلن أنه سيظل متمسكاً بعضويّته في الشعبيّة، وأنه بصدد الترشح للرئاسة في انتخابات العام 2015م، لكنه قبل ذلك كله عازم على خوض غمار الانتخابات التمهيديّة للحزب، ومنافسة الرئيس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، و إنّ جنوب السودان -الدولة الحديثة- لن تسمح بحكم الفرد، ولن تتسامح مع الدكتاتورية، يعينه في ذلك كل الذين تم فصلهم واقالتهم من مناصبهم كوزراء وكان اغلبهم من قبيلة النوير والقيادات الأخرى ذات الصلة التنظيمية برياك مشار منهم أرملة ملهم الحركة الشعبية وابنه اللذان انضما لوفد التفاوض بعد تدخلات دولية أقنعت سلفا بضرورة التنازل عن خطواته التصعيدية لتجنيب البلاد التي كادت تشهد أكبر عاصفة مجاعة في العالم عقب التدهور الاقتصادي والمعيشي بعد تفشي القتل والهرج والمرج والتصفيات على أساس قبلي، جراء إقدام مشار على رفض سياسات رجل الدينكا سلفاكير ميارديت وهيمنته على مفاصل الدولة، ووفقاً لمشار فإن الجنوب ساده الفساد المالي والإداري ولايمكن أن يكون دولة تحقق أحلام اناسها في إطار نظام يقوده ميارديت. ورغم هدوء الأحوال مؤخراً إلا ان الرياح لا زالت تعصف بمقدرات دولة الجنوب يوماً تلو الآخر لجهة التناوشات التي تحدث بين قوات مشار وقوات الجيش الشعبي الحكومي.. هذا كله يجعل من رياك مشار شخصية محورية في دولة الجنوب استطاعت ان تشغل حيزاً كبيراً في كل الأوساط، حتى ان وكالات استخباراتية كبيرة وأخرى للأنباء دولية رأت فيه بانه رجل الجنوب القادم للتأييد الكبير الذي يجده ولموقف الرجل المنطقي المبني على منطق السياسة وقوة السلاح وعزيمة العشيرة، ورغم ذلك كله تظل الغابة هي المكان الوحيد الآمن الذي يأوى إليه الرجل حينما تأبى مفارش السلطة الزاهية أن تتدلى إليه، ومن يدري أن يسعفه عشقه الكبير لها ليغير من ذلك الواقع لينال حظه منها أخيراً، فلا تزال نبوءة «الكجوري» قائمة ولا تزال مخاوف سلفا كذلك بارزة رغم التقدم الكبير الذي قطعه مشار لتحقيق حلمه ونبوءة «واندينق»، فهل سيتحقق الحلم والنبوءة؟، هذا متروك للأيام.