د. محمد أبو بكر الرحمنو - باحث سوداني إن نهضة الأمم والحضارات تقوم على ثلاث قواعد أساسية هي: العلم تنوعاً ونوعيةً وانتشاراً، والعمل أداء ودأباً، والتوجه الذي يمثل رسالة الحضارة وقيمها وغاياتها. أما العلم فتنوعه أساس في تلاقح المعرفة وتوسيع آفاقها والاستفادة من جوانبها ونواحيها المختلفة بحيث تنمو وتتطور، وتنتج الحلول العلمية والعملية الفاعلة للمشكلات والحاجات التي تفرزها الظروف المتجددة والمعقدة. فتنوع العلم أساس الابتكار والتطور والتفتح العقلي. وأما نوعية العلم فلا بد فيها من الجودة والتقدم. الجودة - من ناحية - ضرورة لتحقيق وتطوير أفضل أساليب العمل ونتائجه، وهي تتطلب الإتقان والذي يحتاج إلى اكتمال المهارة وتكامل المعرفة، كما تتطلب الانضباط الذي يحقق التركيز ويمنع التشتت، والتقدم من ناحية أخرى- أساس في السبق إلى ابتكارات وممارسات تحقق التفوق العلمي والتقني، وأساس في السبق إلى رؤى وتصورات تحقق التفوق في التوجهات الفكرية والاهتمامات العملية، وهو يتطلب الانفتاح نحو الأفكار والمعارف والابتكارات والأساليب المختلفة من كافة المصادر - انفتاح دراسة ومعرفة وتقويم، لا انفتاح استقاء وتلق وقبول مطلق- كما يتطلب الاهتمام الذي يؤدي عملياً إلى حسن تسخير الموارد والمعينات والوقت والجهد. إن العلم إن كانت نوعيته سيئة أو متأخرة فإنه لن ينتج حلولاً مبتكرة بل استنساخات تقليدية غالباً ما تكون مشوهة، ولن يصنع تميزاً يؤدي إلى التفوق بل سيقدم مزيجاً من المتناقضات يزيد في التخلف والمشكلات. وهذا يهدم الحضارات ولا يبنيها. أما انتشار العلم فأهميته في بناء الحضارة أنه يُظهر علماء متميزين في شتى المجالات يقودون نهضته ويزيدون في تقدمه ويعملون على الاستفادة منه في تطوير وتحسين جوانب الحياة المختلفة، كما أنه يوفر احتياجات العمل من القوة البشرية الماهرة في كافة المجالات الإنتاجية والخدمية والفكرية المتقدمة بالدولة، ويتطلب الانتشار التعميم والتيسير والتحفيز: التعميم على أرجاء الدولة بتوفير فرص تحصيل العلم في كافة الأقاليم والأمصار، والمدن والهجر، بين الصغار والكبار؛ وتيسير تحصيله على الناس كافة بإزالة العراقيل والصعوبات والعقبات المادية والثقافية التي تعترض التحاقهم بركب العلم والتعلم والابتكار، ولا يعني هذا بحال التقليل من جودة الحصيلة العلمية لطلاب العلم من أجل تحقيق الانتشار بتقليل التكلفة المتغيرة؛ وأما التحفيز فهو توليد الدافع الذاتي لطلاب العلم والعلماء والمعلمين للتحصيل والبذل والعطاء من خلال كفاية معيشتهم، وتوفير المعينات وبيئة العمل والتحصيل المناسبة للتميز والإبداع، ووضعهم في محل التقدير والإكرام حسياً ومعنوياً. فإنه لا يعقل أن يطلب من أحدهم الابتكار والتميز في بيئة قميئة متخلفة بائسة، ولا يمكن أن تتوق نفسه للإبداع وهو منحط المكانة لا يجد التقدير والعرفان. إنّ الانتشار يلزم أن يستصحب فيه التنوع والنوعية، فإن العلم المنتشر إن كان ضحلاً لا يحقق الجودة النوعية والتنوع في مادته ونتاجه كان أثره ضحلاً رديئاَ، لا يحقق البناء الحضاري المطلوب، ولا النهضة الفكرية والتقنية المنشودة، فينبغي في السعي للانتشار عدم التسرع، بل الاستعانة بالوسائل والأساليب المبتكرة، والتعاون مع منظمات المجتمع المهتمة، والمحسنين والرعاة من المؤسسات الخيرية والتجارية، والعمل على مراحل بحيث تنداح المؤسسات التعليمية بشكل منهجي ومنطقي ومتسلسل، وبما يحفظ كفاية وفاعلية العملية التعليمية وجودة الحصيلة العلمية والتنوع المعرفي، مع المحافظة على دافعية عالية لدى المعلمين والمتعلمين. القاعدة الثانية هي العمل، وأركانه: الإتقان والدأب. أما الإتقان فهو أداء العمل وفق المعايير المثلى المتبعة في إنجازه ، وأما الدأب فهو النشاط والحدب والاهتمام والعكوف على العمل. إن الأداء المتقن يقوم على المعرفة والمهارة؛ المعرفة بأساليب العمل وطرقه وإجراءاته وغاياته ومعاييره وأفضل ممارساته، وهذا يعود بنا إلى القاعدة الأولى: العلم تنوعاً ونوعية وانتشاراً؛ فالمعرفة توفر طرق ومناهج أداء مختلفة، ومعايير إنجاز عالية، وتقود إلى إتباع الإجراءات السليمة، وتثير التحدي للوصول إلى أفضل الممارسات المعهودة وتجاوزها. أما المهارة فهي القدرة الحسية على انجاز العمل وفق معايير الإتقان والأزمان المتفوقة، ولا تتأتى المهارة من مجرد المعرفة، فإنها تتطلب الممارسة والتجربة، ودراسة كيفيات الحركة وقياسها، وضبط السلوك والانتباه، كما تتطلب تكرار العمل تحت إشراف خبراء لإتقان أفضل الأوضاع والحركات وتخفيض زمن الإنجاز بشكل يتخطى المعهود. إن المعرفة والمهارة لازمتان لإتقان العمل والوصول بالأداء إلى تفجير الطاقات، ودفع مستويات الإنتاجية، وتحقيق الكفاية والفاعلية، والوصول إلى أفضل النتائج الكلية. الدأب يطور القدرة على الإتقان برفع مستوى المعرفة والمهارة بما ينتج عنه من خبرة، ويحقق الوصول للأهداف والغايات بأسرع وقت لاتصال العمل، ويساعد على رضا جميع ذوي العلاقة من العاملين والمنتفعين للاهتمام بالإنجاز وتحقيقه، بيد أنه يحتاج إلى الدافع من عائد مادي يغطي حاجات العاملين ويؤمن ضروريات حياتهم، واهتمام معنوي يشعرهم بالاحترام والتقدير، كما يحتاج إلى أهداف إنجاز منظورة تجعل للعكوف والنشاط مبرراً وغاية، وإلى تحدٍ يبعث على الإصرار والاستمرار، حتى لا يكون العمل مجرد واجب روتيني متكرر لا منتهى له ولا غاية، يبعث على السأم والملل والكآبة. وليت شعري هل أفلح أهل مصر في تخطي السنين السبع العجاف بغير زراعة السنين السمان السابقة لها بدأب؟، وهل تبدل حال أمة من الأمم بغير جهد متصل وتعب؟. القاعدة الثالثة: التوجه؛ ولا تستقيم الأمور وتتكامل بغير توجه يوحد الجهود، ويحدد مبررات الوجود، ويحدد الغايات ويبين القيم ويبرز الطموحات. إن الحضارة إذا فقدت التوجه سادتها الغوغائية والفوضى، والأمم إذا فقدت التوجيه انفرط عقد آمالها، وتشتت نظم أولوياتها، وانمحت معالم رسالتها وغاياتها. وعندئذ تسيطر عليها أهواء قادتها ومصالح ملئها، فيبني فريق على غير أساس من مصلحة أو غاية، ويهدم فريق حسداً ونقمة ونكاية، فتتبدد الموارد وتتشتت المشارب، ويتصاعد الصراع عنفاً، وتنصرف الهمة عن العلم والعمل اشتغالاً وعطاءً، حيث البوصلة التي ترشد إلى الطريق مفقودة، والآمال التي تتطلع إليها الهمم ضحلة محدودة، والقيم التي ترشد العمل والتصرفات إلى السبيل المستقيم غير موجودة. إن التوجه ملاك الحضارات ودليلها، ودرفسها الذي يحشد قواها وجندها، ونبراسها الذي يهدي في الدجنات سراتها وقادتها؛ ولا توجه منضبط الرسالة والرؤى والغايات، يتوشح بقيم الفطرة والعدل والرشاد أهدى سبيلاً ولا أنصع دليلاً من حبل الله سبحانه وتعالى المتين، ونوره المبين، الذي يهدي إلى العلم النافع والعمل الصالح، حيث ضمن القادر شديد القوى سبحانه الحياة الطيبة للمتمسك به وسعادته، وعلوه في الأرض ونصرته، واستحقاقه في المعاد لجنته وجدارته. إن عماد بناء الحضارة وحجر زاويتها الذي يحقق نهضة الأمم وتفوق الدول لا يقوم على استنساخ العلوم وتطبيقاتها، بل على تأصيلها ورعايتها وتطويرها واستنتاجها؛ ولا يقوم على توفر الموارد المادية والخيرات الطبيعية بأرضها وترف مجتمعها، بل على العمل وفق أداء علمي متميز متقن، ودأب هادف لا يركن، يستفيد من العلم والمعرفة المتطورة وتطبيقاتها، ويتوجه بالرسالة السليمة الهادية وأهدافها، ويبني الحياة الطيبة التي هي دليل الحضارة وشاهدها.